إن العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية علاقة قديمة قدم الإنسان إلا أنها تارة تكون علاقة تصادمية ومرة ودية أو تبريرية لأن كلا من السلطتين لا غني لهاعن الأخري .ومن النادر ان تجتمعا تحت يد واحدة وإن كان عرف تاريخيا الحاكم الرسول والملك الإله ومع التباعد الواقع بين الإيدلوجيتين فقد تمثل في كل واحدة منهما وجود السلطتين
ولأن لكل واحدة منهما اهدافها الخاصة بها فغالبا ما يتصادمان وقد اختلفت اساليب الملك الإله في التعامل مع الأنبياء مابين القتل والتشريد والإضطهاد
بينما طرق الإنبياء تبني علي العدل والمساواة .
ـ الفقهاء والسلطة :
منذ الأيام الأولي بعد رسول لله صلي لله عليه وسلم تميز المجتمع المدني الراشدي وتبين أنه يقوم علي ركيزتين اساسيتين كل منهما تحتاج إلي الأخري ولا تستغني عنها ـ العلماء والسلطان
(……. إن مجتمع الدعوة المحمدية زمن الخلفاء الراشدين كان يتألف من منزلتين فقط كان الأمراء والعلماء فريقا والجند والرعية فريقا آخر ولا شيئ غير هذين الفرقين يستحق أن يوضع في منزلة خاصة ) (الجابري: العقل السياسي العربي 330/331 )
وهذا هو سبب صلاح ذلك المجتمع وبعده عن الإستبداد السياسي والفساد المالي إلا ان تلك المرحلة لم تطل حتي صار الأمراء فريقا والعلماء فريقا آخر (………وعندما قامت دولة السياسة مع معاوية أصبح الأمراء فريقا والعلماء فريقا آخر في القمة واصبح الجند فريقا والرعية فريقا آخر في القاعدة ) ـ المرجع السابق ـ
ولم تطل هذه المدة بعد معاوية حتي تغير هرم المجتمع واصبح الأمراء والجند اي ـ الدولة ـ فريقا والعلماء والرعية فريقا آخر معارضا
ومن هنا يتبين لنا متي بدء العلماء يخرجون أو يخرجون عن دفة الحكم واماكن التأثير
ـ من علامة صلاح الحاكم مشاورة العلماء
أبعد العلماء عن الحكم والمشاركة فيه من بداية الدولة الأموية ووقع الحكام الأمويون في كثير من الأخطاء بسبب إبعادهم للعلماء فلما جاء الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز رد لأهل العلم قيمتهم واتخذ من العلماء مجلسا برلمانيا لا يقطع امرا دونه وهم : عروة بن الزبير وعبيد لله بن عبد لله بن عتبة وابوبكر بن عبد الرحمن وابوبكر بن سليمان بن خيثمة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد بن ابي بكر وسالم بن عبد لله بن عمر بن الخطاب وعبدلله بن عمرو بن العاص وعبد لله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد بن ثابت
فقال لهم بعد أن جمعهم
ما أريد أن اقطع امرا إلا برأيكم فإن رأيتم احدا يتعدي او يظلم فأبلغوني (الطبري 2/ 672 )
ويكفي لمعرفة ذلك أن تطالع بن كثير او بن جرير فلم يوصف حاكم عبر التاريخ بالعدل إلا ووصف بأنه محب للعلماء
ـ الفقهاء والمعارضة :
دخل الفقهاء في صفوف المعارضة في للحظات الأولي من انحراف الأمة عن المنهج الصحيح في الحياة السياسية وكان بداية ذلك حين رأي معاوية رضي لله عنه وارضاه ان يورث الخلافة لا بنه يزيد فوقف في وجه ذلك فقهاء الصحابةرضي لله عنهم
عبد لله بن عمر وحبر الأمة عبد لله بن عباس وعبد لله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن ابي بكر(بن كثير 8/153)
وقد حاول معاوية رضي لله عنه بكل الوسائل مع بن عمر ليقبل بالأمر لكنه امتنع وعد القبول خيانة ساسية للأمة ونقصا في الدين فقد أرسل له معاوية مائة ألف دينار ليقبل ببيعة يزيد فقال : هذا أراد إن ديني عندي إذا لرخيص وامتنع ان يأخذها (بن الأثير 3/250)
وقد أقر الكل اعتراض عبد الرحمن بن ابي بكر علي مروان بن الحكم في بيعة يزيد لما قال سنة ابي بكر وعمر الراشدة المهدية فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر ليست بسنة ابي بكر فقد ترك ابوبكر الأهل والعشيرة وعدل إلي رجل من بني عدي أن راي انه لذلك اهل ولكنها هرقلية (الذهبي 148)
حتي عد هذا اللإقرار اجماعا كماذكر ذلك بن رجب في فتح الباري (5/279)
وقد ورث فقهاء التابعين هذه الأخلاق في معارضة الحكام ومحاربة السنن الكسروية والهرقلية
فهاهو فقيه التابعين وسيدهم سعيد بن المسيب يعتبر الخيانة السياسية تلاعبا بالدين وذلك حينما عرض عليه عبد الملك أن يبايع لولديه فقال :لا أبايع لا ثنين ما تعاقب لليل والنهار
فعرض عليه ان يخرج من المدينة إلي العمرة حتي يبايع الناس فقال لا أجهد بدني وأنفق مالي في شيئ ليس لي فيه نية
فقالوا الزم دارك حتي ينقضي الأمر قال وانا اسمع حي علي الصلاة حي علي الفلاح ما أنا بفاعل
قالوا فإذا قرء الوالي عليك الكتاب فلا تقل لا ولا نعم قال فيقول الناس بايع سعيد ما انا بفاعل
فقيل له ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر فقال ولله لا يقتدي بي أحد من الناس فأمر بضربه والطواف به وسجنه وعرضه علي السيف فلم يرجع عن رأيه (تاريخ خليفة 289بن كثير 9/64)
وقد دخل عليه جماعة وهوفي السجن فقالوا اتق لله فإنا نخاف علي دمك فقال لهم ارجعوا عني أترونني ألعب بديني كما لعبتم بدينكم
وأثر هذا الموقف كثيرا في عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فصار يقول ما أغبط رجلا لم يصبه فيه هذا الأمر أذي (المعرفة والتاريخ 1/ 474)
وقد تأثر تابع التابعين بهذا الأمر وكان دافعا لهم في معارضة الأمراء ومواجهتم
فهاهو مالك رحمه لله تعالي يضرب ويسجن ويطاف به بسبب فتواه ومع ذلك يسلي نفسه و يقول : ضربت فيما ضرب فيه سعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر وربيعة ولا خير فيمن لم يؤذي في هذا الأمر (السير 9/331)
وممن سا رعلي هذا الطريق وأوذي وكان من الفقهاء المعارضين للأمراء في تلك الفترة محمد بن أبي ذئب القرشي المدني فقد عرف بقول الحق والصدع به أما م الطغاة ولهذا السبب فضله الإمام أحمد علي مالك لشجاعته وأمره بالمعروف وكونه لا تاخذه في لله لومة لائم (تاريخ بغداد 13/328)
وكان رحمه لله تخافه الأمراء وتخشاه ومما يثبت ذلك قصته مع المهدي
فقد حج المهدي بن المنصور ودخل المسجد النبوي فقام له الناس ولم يقم بن ابي ذئب فقيل له قم هذا أمير المؤمنين فردعليهم إنما يقوم الناس لرب العالمين فقال المهدي دعوه فلقد قامت كل شعرة في رأسي (تاريخ بغداد 2/298 )
ـ الفقهاء والثورة :
في النصف الثاني من القرن الأول وفي المرحلة الثانية من تاريخ هذه الأمة علي تعبير مالك بن نبي وفي الوقت الذي بدأت الأمة تحكم فيه بالخطاب السياسي المؤل بد ل المنزل علي تعبير المطيري
وقعت ثورات متعددة في أطراف الدولة الإسلامية وكان الفقهاء هم قادة هذه الثورات وهم وقودها
وكانت أول هذه الثورات ثورة عبدلله بن حنظلة الغسيل وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا فلما قدم علي يزيد ورأي حاله رجع إلي المدينة وخلعه وبايعه اهل المدينة (الذهبي 24)
وكان عبد لله من صغار الصحابة وقتل يوم الحرة وقتل معه من الصحابة عبد لله بن زيد بن عاصم الأنصاري وعبد لله بن السائب المكي القارئ ومعقل بن سنان الأشجعي (الذهبي 144ـ 145)
ويدل علي وجود العلماء والفقهاء في شهداء الحرة ماقاله مالك رحمه لله تعالي
قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبع مائة (بن كثير 8/ 228)
ثم تمضي بعد ذلك سنوات قليلة ليفتح التاريخ صفحة جديدة من تاريخ الفقهاء ستكون حجة علي من يأتي بعدهم ممن حمل اسمهم واتصف بصفتهم وذلك في سنة 81 هـ
حين خرج الفقهاء والقراء مع بن الأشعث وبايعوه علي الكتاب والسنة وخلع أئمة الصلال (بن جرير 3/ 622)
وقد كان من اصحاب هذه الثورة :
أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وابو إسحاق السبيعي وعبد الرحمن بن ابي ليلي وابو البختري الطائي وعبد لله بن شداد بن الهادي والحسن البصري ومسلم بن يسار والنضر بن انس بن مالك وابوعبيدة بن عبد لله بن مسعود وطلحة بن مصر اليمامي وزيد بن الحارث اليمامي ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم من علماء المصرين (خليفة : 286 /287 )
وخطب هؤلاء الفقهاء في الناس وحرضوهم علي محاربة الظالم والخروج عليه .(تقرؤ خطبهم في تاريخ خليفة 286/287)
وكان من الفقهاء الذين يلعنون الظالم ولا يحبونه ابراهيم النخعي فقيه التابعين وكان يقول كفي عمي أن يعمي الرجل عن امر الحجاج وكان يري لعن الحجاج وسبه وقد عاش كثيرا من الزمن وهو مطارد من قبل الحجاج (بن كثير 9/207 )
ويستمر الفقهاء في تنوير الشعوب وردهم إلي الصواب كلما ظهر بطل أو قائد فهم الفقهاء منه القدرة علي الصلاح والإصلاح
وقد تمثل ذلك حينما ظهر محمد ذو النفس الزكية في ثورته ضد العباسيين فأفتي الفقهاء وعلي رأسهم مالك بجواز الخروج معه وقد ضرب مالك في ذلك وأوذي ليعلن مالك قناعته ويرسل رسالة إلي اتباعه من بعده ـ ينبغي أن يفهموها ـ لا خير فيمن لا يؤذي في هذا الأمر (السير 9 /393)
ويخرج ابراهيم اخو ذو النفس الزكية في الكوفة فما كان من فقهاء الكوفة ابوحنيفة وسفيان الثوري إلا ان أفتو بجواز الخروج مع ابراهيم فسارع أهل الكوفة فيها (تاريخ بغداد 13/397 )
وقد خرج مع ذو النفس الزكية في ثورته ركب من فقهاء المدينة وهم : عبد العزيز الداوردي وابوبكر بن ابي سبرة وعبد الحميد بن جعفر وعبد لله بن هرمز ومحمد بن عجلان (بن جرير 4/448)
كما خرج مع ابراهيم من فقهاء العراق :
عيسي بن يونس ومعاذ بن معاذ وإ سحاق بن الأزرق ومعاذ بن هشام وغيرهم (بن كثير 10 /98)
ليبقي هؤلاء الفقهاء شامة في جبين التاريخ وحجة علي غيرهم ممن احب البلاط وقربه والسلطان وحبه .
باحث موريتاني مقيم في تركيا