كنت أحسب أن أحمد ولد وديعة وجماعته السياسية من حزب تواصل ـ لا أقول رهطه ـ يمتلكون من الوعي ومن النضج ما يجعلهم يدركون أن معركتهم الحقيقية إن كانوا صادقين فيما يرفعونه من شعارات على الأقل، هي مع أعداء المشروع الحضاري للأمة،
الداعين إلى التغريب، الساعين إلى تمزيق كياناتنا الوطنية عبر دعوات الفتن ومحاولات التفتيت، وأنها ليست معركة، لا مع القوميين عامة ولا مع الناصريين خاصة، وما كان ينبغي أن تكون مع النظام الوطني القائم.
وتمنيت لو لأنه التزم بالحد الأدنى من أبجديات الحوار ليدافع عن موقفه وليدعم رؤيته بما شاء من حجج منطقية أو واهية، دون أن يدق مزامير الحرب الأهلية في بلده، أو يسهم في تأجيج النعرات العرقية، حتى لا يلتقي مع دعاة التقسيم عن غير قصد، ودون أن يسيء كذلك على الآخرين وطنيا وقوميا، خاصة أصحاب القامات الكبيرة مثل الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، الذي أساء إليه سابقا، ومثل حمدين صباحي، والأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي وصفه بالعجوز، ناسيا أن من يدافع عنهم يوجد من بينهم من هم أكبر من هيكل سنا وأقل منه مكانة وعطاء وتجربة وتألقا.
ورغم كل هذا فإن القوميين مدعوون إلى الترفع عن المهاترات الكلامية وإلى التسامي والعزوف عن كل قول أو فعل من شأنها إثارة النعرات، كي لا يقعوا في فخ من يحاولون الاصطياد في المياه العكرة هذه الأيام.. بل إن وعيهم الأصيل فكرهم المستنير كدعاة وحدة وتعايش بين أبناء البلد الواحد يحتم عليهم مزيدا من الحذر واليقظة ليفوتوا الفرصة على كل أصحاب المشاريع التدميرية، سواء القدامى أو الجدد، خاصة إذا علمنا بأن الرؤية الوطنية لدى القوميين ظلت هي الأصلح والأسلم، ولا بديل عنها إلا بالحروب والفتن، ولعل التجارب المحيطة ببلدنا تثبت صحة هذه الرؤية وتبين عجز وفشل الأطراف المناوئة والثائرة ضد كل ما هو قومي، عن تقديم بديل مقبول غير التشريد والقتل والتجويع.
أما القول بعداء الناصريين للإسلام ودعاته، فهو قول مردود تكذبه حقائق الواقع، فالناصريون تاريخيا على لسان جمال عبد الناصر يعتبرون الإسلام ثورة إنسانية هدفها الحفاظ على شرف الإنسان وكرامته، والتطبيقات العملية في عهد عبد الناصر، تؤكد صدق التوجه الإسلامي لثورة 23 يوليو، الذي تجسد في تطوير وتحديث الأزهر الشريف ومؤسساته العلمية دون أن يطعن فيه ذلك الصدام المؤسف مع جماعة الإخوان المسلمين، لاعتبارات سياسية سأتطرق إليها لاحقا.
أما هنا في موريتانيا، فالناصريون هم حملة المشروع الإسلامي النقي، حيث ظلوا يصارعون القوى الشعوبية والعلمانية الرافضة لإدخال الإسلام في الحياة العامة، ولن يسمحوا لأي كان بالتجني عليهم أو بوصفهم بما ليس فيهم.
صحيح أن الناصريين لا يتاجرون بالإسلام ولا يتكسبون به ولا يوظفونه لتصفية الخصوم، وينتقدون على بعض القوى السياسية إقحام الدين في المعارك السياسية الحزبية الضيقة كما يفعل الإخوان المسلمون في مصر، حين قام أمير هذه الجماعة الدكتور يوسف القرضاوي بهدر دم القائد الكبير الشهيد معمر القذافي، بعد أن كان يمتدحه ويثني على مواقفه ومواقف ثورة الفاتح وجمعية الدعوة الإسلامية في ليبيا من الإسلام والمسلمين، وحين أفتى بالجهاد ضد النظام العروبي في سوريا، وحين أفتى ضد حزب الله وأمينه العام المقاوم الكبير حسن نصر الله، بعد أن كان يعتبره سيد المقاومة بحق، وبعد أن كانت جماعة "تواصل" هنا تزكي موجة انتصارات هذا الحزب على الكيان الصهيوني وتوظفها لرصيدها السياسي.
إن هذا التوظيف الخاطئ للإسلام هو ما جعل أحد الدعاة الكبار في مصر يبين حجم التناقض في سياسة هذه الجماعة ويطالبها بالكف عن الكيل بمكيالين لأن الإسلام لا يقر ذلك، مشيرا إلى التناقض في فتوى القرضاوي الداعية إلى وجوب الثورة على بعض الرؤساء وحرمتها ضد آخرين.
فقد سبق للقرضاوي أن استدل بالحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه: (من كره من أميره شيئا فليصبر، فإن من خرج على السلطان شبرا فمات، مات ميتة جاهلية)، مبررا به حرمة الخروج على مرسي، وقد تسبب هذا التوصيف الخاطئ للإسلام في ارتكاب مرسي أكبر خطإ استراتيجي كاد أن يهدد الأمن القومي لمصر عندما قطع العلاقات مع سوريا الشقيقة وقلب العروبة النابض التي حمت المقاومة في فلسطين وفي لبنان، محتفظا في نفس الوقت بالعلاقة الخاطئة مع إسرائيل.
أما ملف الصدام المؤسف الذي حصل بين قيادات الإخوان وعبد الناصر، فإن جذوره تعود إلى ارتماء الإخوان وقتها في فلك الرجعية العربية والدوائر الغربية للانقضاض على الثورة ولإضعافها في وجه أعدائها الخارجيين، لكن أسبابه المباشرة كانت خطأ في حسابات مرشد الإخوان حينها "الهضيبي" الذي تصور أن الثورة هي ثورة الإخوان، وأنه ما على الضباط الأحرار إلا أن يكونوا جسرا لعبور الإخوان إلى الحكم، خاصة وأن العديد منهم كانوا أساسا من الإخوان.
ولقد ثبت أن عبد الناصر أراد التعاون معهم ولم يستهدفهم إلا عندما أعلنوا الحرب عليه بشكل بات معروفا، فحادثة الاغتيال مشهورة، وقد لعب السيد قطب دورا بارزا في التحريض ضد عبد الناصر، وكانت مشاركته كبيرة، وقد تمت محاكمته وصدر بحقه الحكم المعروف، وهو رجل عرف بتطرفه وبغلوه، لكن هذا الصدام لايبرر الشطط الذي مارسته معهم أجهزة الأمن في المعتقلات.
وقد كان الناصريون سباقون لإصدار تقييم موضوعي للثورة، وفي هذا المجال بالذات حيث نظموا أول ندوة في ليماسول بقبرص سنة 1982 لتقييم التجربة الناصرية تناولت سلبياتها وإيجابياتها، وواصل مركز دراسات الوحدة العربية هذا التقييم وأصدر عدة إصدارات في هذا الشأن منها كتاب بعنوان: ثورة 23 يوليو ـ الحصيلة والآفاق، بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة سنة 2002.
أما الصدام مع بعض قوى اليسار فكان بسبب الخلاف مع نظام عبد الكريم قاسم في العراق وحلفائه الشيوعيين.
وبالنسبة لموقف الإخوان من الاحتلال ومقاومته فلا أحد ينكره لأنهم كانوا سباقون للقتال في فلسطين سنة 1948، ولاشك أن حماس ظلت تقاوم، فهذا لا خلاف فيه ولا جدال، إنما الجدال حول موقف الإخوان المسلمين من القضايا الكبرى بعد وصولهم إلى السلطة.
فماذا كان موقفهم من اتفاقيات الخزي والعار في كامب ديفد، كيف يمكن تبرير الرسالة التي بعث بها مرسي على شمعون بيريز؛ أما كان يقول إن تصدير الغاز إلى إسرائيل عار ما بعده عار، وأن حصار غزة وصمة عار، وحين وصل إلى السلطة باشر بهدم الأنفاق التي تربط مصر بقطاع غزة.
وحين تطرق لاتفاقية العار قال: "نحن نحترم اتفاقياتنا الدولية لأننا نمثل دولة ولسنا عصابة"، ألم توضع ملفات تطبيق الشريعة واتفاقية كامب ديفد.. في سلة المهملات.
أردت أن استعرض بعجالة هذه النقاط لأبين أن الإخوان فصيل سياسي اتخذ الإسلام للدعاية، ومشكلتهم الكبرى أنهم عجزوا أن يتحولوا إلى تيار عام وحاضن في المجتمع المصري، إنما تحولوا إلى طائفة كبيرة فقط، طائفة تنقصها الرؤية الواضحة وتعاني من ضبابية في الموقف ومن الميوعة الشديدة في تحديد الأولويات.. وكانت فترة الرئيس مرسي القصيرة مثال حي على ذلك.
وبالنسبة لعبد الفتاح السيسي فلو كان ناصريا لما عينه مرسي وزيرا للدفاع، إنما الثابت أن اختياره له كان على أساس انتمائه لجماعة الإخوان أو تعاطفه معها بحكم علاقته الأسرية بالحاج السيسي، الذي هو أحد قيادات الجماعة المعروفين في الإسكندرية.
وفيما يتعلق بالسؤال: أين كان الخليل وجماعته؟، في محاولة يائسة للتحريض على الفتنة من جديد، فإن الكل في موريتانيا خاصة الشرفاء من أبناء البلد يعرفون أين كان الخليل وجماعته آنذاك، وأين ظلوا وكيف كانوا، وأين هم الآن.
الخليل وجماعته كانوا في مقدمة القوى الوطنية الجادة والواعية المؤمنة بوحدة الوطن والأمة، يقفون في وجه كل محاولات التفرقة، وقدموا أرواحهم ودماءهم في سبيل القضايا الوطنية جنبا إلى جنب مع باقي القوى الوطنية التي ناضلت نضالا حقيقيا.
الخليل وجماعته لم يكونوا كما تصورت وادعيت يا أخي وديعة سامحك الله وسامح موقع السراج ويومية السراج، وكان عليك أن تعلم على الأقل أنك في شهر رمضان؛ ففي الحديث الذي لا خلاف فيه أن "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
فالكل يدرك ويعلم أن الخليل لم يدعم أي انقلاب لا في موريتانيا ولا في مصر، بل على العكس عارض بشدة وبصدق ما جرى في موريتانيا، وعبر عن رفضه لما جرى في مصر، فلماذا تعمد قلب الحقائق، أم أننا جميعا نعيش حقبة "صوت العرب".
والكل على يقين من تمسك الناصرين بالإسلام، والجميع يعرف أن القوميين ما قتلوا الزنوج، بل إنهم كغيرهم من الموريتانيين حين تكشفت الأمور عبروا عن إدانتهم لتلك الأحداث الأليمة، صحيح كذلك أنهم لا يتاجرون بهذا الموقف ولا يسوقونه.
والسلام
المصدر : الحرية نت