إن المتابع لموجة المقالات والتصريحات والردود المتبادلة بين القوميين والاسلاميين فى بلدنا هذه الأيام يدرك أن الحقائق المجردة قد غابت عنها وحلت محلها الاتهامات السريعة والردود الفجة المليئة بالتهجم والغارقة فى البساطة والتبسيط،
وهي ـ فى أغلبها ـ ليست سوي استجابة لرغبات ونزعات عند بعضنا فى إعادة عقارب الساعة إلى الماضي البعيد وضخ دماء جديدة فى معارك كلامية سابقة أغرقت الأمة فى موجة من المهاترات والمماحكات التي لا قيمة لها ولا طائل من ورائها، فلو تحاور الإسلاميون والقوميون حول الأفكار والرؤي وحاكموا أنفسهم إلى مبادئهم وأفكارهم وسيرتهم ومسيرتهم لكان ذلك خيرا لهم وأفضل، وهو أسلوب المجتمعات المحترمة والدول المتحضرة التي تناقش تاريخنا وماضيها بوعي ومسؤولية حتي تستخلص منه العبر والدروس ليس من أجل إثارة النعرات ونبش الجراح ، بل من أجل المصالحة مع التاريخ بكل مافيه ، واستثمار عناصر القوة فيه وتجاوز الأخطاء وتجنب تكرارها .
لكن أمة العرب ونخبها لا يريدون ذلك للأسف ولذلك فهم يغرقون اليوم فى نقاشات لا أول لها ولا آخر : من قبيل هل كان عبد الناصر زعيما شعبيا ؟ وهل ما قام به انقلاب أم ثورة ؟، وهل المذابح التي ارتكبها نظامه كانت دفاعا عن النفس، أم هي ظلم وعدوان...؟ وهل الإطاحة برئيس منتخب هي انقلاب ام ثورة .. ؟ وتريد النخب العربية أن تبقى فى نفس المربع، دون أن تتجاوزه إلى عمل مثمر أو جهد مذكور .
والنخبة الموريتانية تريد أن تقلد تلك النخب العربية بنفس النهج وعلى نفس الطريقة، تصديقا لما قاله المفكر المغربي عبد الله العروي من أن " ماض الشرق حاضر الغرب " إنها مشكلة عويصة جعلت الأمة تراوح مكانها لأنها استغلت التاريخ لإعادة إنتاج أسوء ما فيه من خلال تفريخ الصراعات واجترار الخصومات وصناعة الأزمات، فبدل أن يكون الزمن جزء من العلاج صار جزء من الإشكال، وعقبة فى سبيل التقدم والتطور. .
ثم أين هى القومية ـ أيها الأصدقاء ـ مما نحن فيه اليوم ؟ ودعاوي الفرقة والتشرذم تسمع من كل ناحية وصوب ؟ ، وكيف نفهم حديث بعض القيادات فى بلادنا التي دافعت عن كل الأنظمة الفاسدة وصفقت لكل المتمردين والانقلابيين ثم تتحدث الآن عن دعم الشعوب وخياراتها وعن النظريات القومية والقيادات التاريخية ...؟ هل هذه القومية التي نادت بوحدة الأمة العربية والتخندق مع قضاياها الكبري، هذه ليست هي القومية فى أصولها النظرية وما سوي ذاك أشخاص يدعون أنهم قوميون ولكن أفعالهم تناقض ما يدعون . كما أن للإسلاميين أخطاء فى الممارسة و الفعل السياسي وإن كانوا اليوم فى موقع المظلوم والمفتري عليه من بعض النخب ووسائل الاعلام ، التي تتبني خطابا عنصريا ضدهم وتشكك فى أهليتهم الأزلية لممارسة السياسة والحكم.
ويستغرب المرء كيف يمكن فهم الاتهامات المرسلة وتبني خطاب العصابات العنصرية كحركة "افلام " ومثيلاتها فى تحميل القوميين مسؤولية أحداث لا علاقة لهم بها ؟ وكأننا نبرؤ المتهم الحقيقي ونريحه من المسؤولية والتبعات .
للقوميين من الأخطاء والخطايا ما يمكن أن يلاحظ عليهم وينتقد ولكن ليس عبر اتهامهم بما لم يفعلوا وتحميلهم ممارسات ارتكبها نظام ظالم غشوم ، كان القوميون الزنوج يخططون للإجهاز عليه والإطاحة به، فكشف مخططهم وارتكب فظائع بحقهم وحق أسرهم .
يا أيها القوميون ويا أيها الإسلاميون عليكم بتجاوز الصراعات القديمة، والتوقف عن هدر الأوقات والجهود وتبديد عناصر القوة التي تمتلكها الأمة ، وأن تستبدلوا الصراخ العالى بالنقاشات الهادئة والكتابات الرصينة والردود المفيدة بعيدا عن التربص والتصيد
وأن يتم تحرير محل النقاش فى أي موضوع جديد أو خلاف طارئ وحصره فى إطاره ووقته وزمانه ، وعليكم أن تفهموا جميعا أن ذائقة الشعوب قد تطورت وعقليتها قد تغيرت ولذلك لم يعد لبرنامج "الاتجاه المعاكس" ما كان له من شعبية وشهرة، فأسلوبه فى النقاش والحوار تجاوزه الزمن وتعداه .
إذن لا معني لاتهام القوميين العرب بتدبير أحداث 89 العنصرية والحديث عن ذلك تمييع للحقائق وتربص غير مبرر ، ولا توجد سخافة أكبر من اتهام الاسلاميين بالتبعية لأمريكا وإسرائيل، فليس لأمريكا وإسرائيل الآن عدو بحجم التيارت الاسلامية والواقع شاهد ماثل على ذلك .
ينبغي أن تختفى لغة الاتهامات الخشبية الممجوجة وأن نناقش الحقائق بتجرد وموضوعية وأن نحذر من نكئ الجراح وتغذية الصرعات ، وأن نقدم لشعبنا وأمتنا حوارا راقيا ، ونقاشا مثمرا ، ومشاريع سياسية ورؤي فكرية نحن فى أمس الحاجة إليها حتي تستطيع الأمة ان تختار منها ماهو أصلح وأنفع وأجدي.
هذا الحديث سيغضب بعض الأصدقاء ولن يرضي الخصوم ، ولكنه رأيي لا أتعصب له ومن قدم لنا خيرا منه قبلناه وناقشناه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.