بيـــــــــان رقم واحد، اكتسبت هذه العبارة شهرة واسعة في بلدان العالم الثالث وخاصة افريقيا، هي عبارة تمثل فاصلة زمنية بين عهدين ونظامين أحدهما أصبح للتو بائدا ومسئولا عن كل الشرور والآخر يحمل من الوعود ما يجعله منقذا وخلصا للبلاد والعباد من الممارسات للاستبدادية للنظام البائد، هي لعبة لا يتقنها إلا الكبار.
يعرف أغلب الباحثين الانقلاب العسكري بمفهومه الواسع على أنه الاستيلاء على السلطة باستخدام القوة العسكرية بطريقة مفاجئة ومع استخدام الحد الأدنى من القوة، غالبا ما يقود الانقلاب أفراد مؤثرين في القرار العسكري والسياسي، وحسب مالابارتي فإن مفهوم الانقلاب لا ينطبق فقط على العسكريين والسياسيين بل يشمل حتى القوى المدنية، التي تشارك أيضا من خلال زعزعة استقرار الحكومة من خلال إجراءات تهدف إلى خلق حالة من الفوضى الاجتماعية تمكن وتبرر في وصول الانقلابيين إلى السلطة.
هذا التعريف يخرج الانقلابي من طائلة حكم الحرابة كونه خرج لطلب الإمرة، فقد ورد في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير في تعريف الحرابة: "المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك" يخرج (من ذلك) قطعها لطلب إمرة أو لثائرة أي عداوة بينه وبين جماعة كما يقطع في بعض عسكر مصر مع بعضهم فليس بمحارب، بل يرى جمهور الفقهاء وجوب طاعة الانقلابي (وجوب انعقاد الإمامة ضرورة للمتغلب الجالس بالقوَّة في موضع الحكم) ما لم يكفر كفرا بواحا لما في ذلك من درء للمفاسد والمقدم شرعا على جلب المصالح.
اذا كان عساكر مصر قديما جبلوا على حب الانقلابات حتى باتت سمة غالبة عندهم، فإن أبنائهم في العصر الحديث لم يكونوا بدعا بل ساروا على خطى آبائهم الأولين، فقد شاءت الأقدار أن تكون مصر هي بوابة الانقلابات في القارة الافريقية حين أطاح اللواء محمد نجيب ورفاقه الضباط الأحرار بالملك فاروق الأول عام 1952، ومنذ ذلك التاريخ المشؤوم جرى في افريقيا وحدها أزيد من 80 انقلابا عسكريا آخرها كان من صنع عساكر مصر إضافة إلى ما يناهز 300 محاولة انقلابية تم اجهاضها.
لكن ما سر نجاح هذا الكم الهائل من الانقلابات في ظرفية وجيزة وهل توجد انقلابات حميدة وأخرى كارثية ؟
لعله من نافلة القول اعتبار الانقلابيين من أكثر الناس انتهازا وتصيدا للفرص فشرط نجاح الانقلاب هو انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة ومن أجل ذلك لابد من توفير الظروف الملائمة وخلق أزمات مستعصية تنعدم معها الحلول وتضيق الآفاق عند النظام السياسي القائم وهو ما من شأنه تسهيل تمرير أي عمل انقلابي وتسويقه على أنه إنقاذ او خلاص او حتى تصحيح للمسار، ومن أجل فهم الانقلاب لابد من التوقف عند الظروف التي حدث فيها دون إغفال المآل الذي يسلكه الحكام الجدد، ومن هذا المنطلق سنذكر في هذه العجالة ثلاث حالات قد تكون جامعة لأغلب الانقلابات التي حدثت في افريقيا حديثا.
في النيجر ذلك البلد الإفريقي الذي يعد من بين أفقر عشر دول في العالم قرر حكامه العسكريون بعد أن أضناهم عدم الاستقرار السياسي أن يضعوا بندا في الدستور يمنع أي تعديل يتعلق بطبيعة النظام الجمهوري للبلاد او بانتخاب رئيس الجمهورية، استلم السلطة بعد ذلك أمادو طنجة الذي فاز في الانتخابات الرئاسية الشفافة والنزيهة، أمضى طنجة إنابتين رئاسيتين هما ما يسمح له به الدستور لكنه أراد أن لا يكون بدعا بين نظرائه الأفارقة فأوعز إلى نيجر الأعماق أن تتظاهر لمطالبة القائد الهمام بمواصلة مسيرة البناء والتنمية التي انطلقت منذ عشر سنوات –دون أن تتقدم كثيرا- في أرجاء البلاد، من أجل ذلك قرر فخامته اجراء تعديل دستوري يتم بموجبه "السماح له بتمديد ولايته ثلاث سنوات لاستكمال برنامجه وانهاء المشاريع الكبرى التي انطلقت في البلاد"، أفتى المجلس الدستوري برفض التعديلات وكذلك البرلمان وأعلنت اللجنة المستقلة للانتخابات عدم قبولها للإشراف على استفتاء غير دستوري، حينها قرر الرئيس إعلان الطوارئ في البلاد وحل كل الهيئات السابقة الذكر بعد استشارة بعض الفقهاء الدستوريين، وأمام المظاهرات الرافضة للقرار أعلنت المنظمة الاقتصادية لدول غرب افريقيا النظام الحاكم في النيجر خارج اطار الشرعية وأمهلته أسابيعا للعودة إلى رشده مهددة بمقاطعة البلاد وفرض حصار عليها.
عند منتصف نهار 18 فبراير 2009 أي ساعات بعد انتهاء المهلة المذكورة، هاتف الرائد سالو جيبو قائد وحدة الدعم في العاصمة انياميي احدى وحدت النخبة وأكثرها ولاء للرئيس حيث وضعت في أعلى جاهزية من أجل التدخل والتصدي لأي تمرد او انقلاب محتمل، هاتف زميله العقيد جبريلا حم حاميدو قائد المنطقة العسكرية في العاصمة وطلب منه الحضور إلى مكتبه لناقش أمر هام، فور وصوله أعلن له أنه قرر انقاذ البلاد من شبح أزمة كارثية بدأت تلوح في الأفق نتيجة للتصرفات الأنانية للرئيس وطلب دعمه في قراره، لم تمض إلا ثلاثين دقيقة كانت كفيلة لاعتقال الرئيس وأعضاء الحكومة المجتمعين في القصر الرئاسي، تشكل المجلس العسكري لإعادة الديمقراطية وقاد مرحلة انتقالية توجت بانتخابات شفافة وحرة ونزيهة نجح على إثرها المعارض الشرس الرئيس محمدو اوسوفو، لم يذرف أحد دمعة حزن على مصير طنجة الذي ألقي به في غياهب السجن لينضم إلى لائحة طويلة من أقرانه الأفارقة من بينهم صديقه المقرب معاوية ولد الطايع قادهم سوء تدبيرهم للأمور إلى حتفهم ومن مأمنهم تم إتيانهم، شكل ذلك الانقلاب طوق نجاة حقيقي للبلاد وهو من الحالات النادرة التي يحدث فيها الانقلاب تغييرا حقيقيا في البلاد، إنه انقلاب حميد.
حكم لانسانا كونتي غينيا كوناكري ربع قرن من الزمن أذاق الشعب خلاله الأمرين وأنهكت المؤامرات والدسائس اقتصاد البلاد وأمنها الهشين حتى باتت قاب قوسين او أدنى من التفكك والتلاشي لولا القبضة الحديدية التي يمسك بها العقيد العجوز الأمور وقمعه المتواصل لكل الانتفاضات والحركات الاحتجاجية، تجرع الغينيون المساكين من الكأس ذاتها حين حكمهم سيكو توري ربع قرن هو الآخر حتى وافته المنية عام 1984 ليقفز كونتي الى السلطة على ظهر دبابته عبر انقلاب عسكري مستغلا الفراغ الدستوري الذي تركه رحيل الأب المؤسس إلى الرفيق الأعلى.
عشية 23 من ديسمبر 2008 أعلن رئيس الجمعية الوطنية عبر أمواج التلفزيون والإذاعة المحليتين أن " رئيس الجمهورية وبعد صراع طويل مع المرض انتقلت روحه إلى بارئها"، بعد ذلك بساعات أعلن النقيب موسى دادس كامرا أن "المجلس العسكري للديمقراطية والتنمية قد استلم السلطة في البلاد وأنه تم حل الحكومة والدستور"، جرى كثير من التجاوزات خلال المرحلة الانتقالية لكن الغينيين استطاعوا بحكمتهم تسييرها بنجاح باهر أدى في النهاية إلى نجاح المعارض التاريخي ألفا كوندي مستفيدين في ذلك من العثرات التي شهدتها موريتانيا خلال الفترتين الانتقاليتين الأخيرتين، هذا الانقلاب كان صدفة وبالتالي لم تكن عند الانقلابيين أجندة ومطامع في السلطة وهو ما سهل على المجتمع المدني والقادة السياسيين العبور بالبلاد إلى بر الأمان بعد مغالبة العسكر في المفاوضات التي حدثت برعاية قوى دولية واقليمية نافذة، لكي يصبح هذا الشكل من الانقلابات تغييرا يفضي إلى ديمقراطية حقيقية لابد من توفر الإرادة القوية لدى القادة السياسيين من أجل تمرير مخططاتهم وكبح جماح العسكريين الانقلابيين.
عساكر مصر البواسل ظلوا على العهد ولم يبدلوا تبديلا، انقلبوا على أول رئيس منتخب لم يمهلوه في الحكم غير سنة و48 ساعة قبل أن يعتقله حرسه الرئاسي الذي كان يتعهد بحمايته، وفي الحقيقة لا خوف على الرئيس إلا من الحرس الرئاسي، السيناريو المصري الذي يجري هذه الأيام هو نسخة سيئة الإخراج من الانقلاب الموريتاني الذي أطاح هو الآخر بأول رئيس منتخب.
أطاح الرئيس المصري محمد مرسي بقيادات القوات المسلحة وأحالهم الى التقاعد وعين البعض الآخر في مهام مدنية واستشارية ضمن خطة وضعت لهيكلة مراكز القرار في المؤسسة العسكرية وضمان ولائها للنظام الديمقراطي وللرئيس المنتخب، وفي هذا الإطار عين قادة جدد سربت وسائل الإعلام حينها قربهم الفكري والإيديولوجي من حركة الإخوان المسلمين.
ما غاب عن أذهان قادة مصر المنتخبين هو أن المؤسسة العسكرية لا تتغير رؤيتها ومواقفها بتغيير قادتها بل تبعا لبعض الحسابات الداخلية والمصالح التي توجه بوصلة القرار العسكري، ولأن العسكر لا يهتمون كثيرا بالكلام والتصريحات الاعلامية أحرى بلعب الأدوار السياسية المعلنة فقد اعتمدوا في تنفذ مخططاتهم على كتيبة من المدنيين من بينهم اعلاميين ورجال أعمال ورؤساء أحزاب ومثقفين وصناع رأي وثوار....الخ، إنهم يعملون في صمت وسرية ويتصيدون فريستهم وفي اللحظة المناسبة ينقضون عليها بمخالبهم حيث لا ملجأ لها.
بدأ العسكر المصريون بخلق المشاكل ووضع العقبات في طريق النظام الحاكم، كما عملوا على عزل القوى الإسلامية عن بقية المجتمع عبر خلق صراعات أيديولوجية وتغذيتها، ومن ناحية أخرى أتقنوا اللعب على الجبهة الاقتصادية وتأزيمها حتى بات المواطن البسيط يعاني الأمرين في الحصول على لقمة عيشه وأصبحت الطبقة المتوسطة مهددة في وجودها، لا حديث يعلو فوق فشل نظام الإخوان وسوء تسييرهم الذي أدى إلى تفاقم أزمات الغاز والسولار والبنزين والخبز والنقل والأمن و ......الخ.
من الطبيعي اذا في وضع كهذا أن تلاقي حملة تمرد تجاوبا منقطع النظير من المواطنين عبر جمع توقيع أكثر من 22 مليون مواطن مصري يدعون إلى تنحي الرئيس محمد مرسي ورسم خارطة طريق اتضح فيما بعد أن أيدي العسكر لم تغب عنها أبدا، كان مساء 30 يونيو فاصلا في التاريخ المصري حين امتلأت الميادين والساحات بالمطالبين بتنحي الرئيس وهو ما استجاب له قائد الجيش بعد 48 ساعة بقراره عزل الرئيس ووضع خارطة طريق لإدارة فترة انتقالية جديدة في البلاد.
الانقلاب المصري اذا كان من أسوء أنواع الانقلابات وأكثرها حقارة حيث يمضي القادة العسكريون دهرا في التخطيط وخلق المشاكل لنظام يتصيدون عثراته بغية الاطاحة به، هو اذا من الانقلابات التي يمكن الاستغناء عنها بل يمكن القول أنه فِضْلة على رأي النحاة، ولم يكن عساكر مصر بدعا في هذا فقد سبقهم لها جنرالات موريتانيا عام 2008 حين انقلبوا على رئيس هم من أوصله سدة الحكم عبر انتخابات شفافة وحين أراد الخروج من عباءتهم حركوا كتيبة مشاة البرلمان التي شكلت رأس الحربة في التمرد على الرئيس ومجابهته وهو ما أدى إلى الإطاحة به وسجنه لاحقا من قبل الحرس الرئاسي المكلف بحمايته.
وتبقى الانقلابات شكلا من أشكال التغيير بل أكثرها اطلاقا لكنها تظل رهينة للقرارات التي يطبقها الانقلابيون وردود الفعل الشعبية والسياسية التي تقابل بها، فالانقلابيون هو من أرغم زين العابدين ومبارك على التنحي عن الحكم، وهم من استغل الفرصة وأطاح بمعاوية وممادو طنجة، لكنهم أيضا سيذكر لهم التاريخ أنهم انقلبوا على سيدي ولد الشيخ عبد الله ومحمد مرسي.