مع كل ذكرى انقلاب تمر أجد من نفسي رغبة لا تقاوم في الكتابة عن ذالك الانقلاب ومنفذيه وعن الدوافع الحقيقية لانقلابهم ومسوغاته وعن الأوضاع التي قد تكون هيأت للقيام به فعلا، بدءا من العاشر من يوليو 78 وحتى السادس من أغسطس 2008 فلم أجد اختلافا
أو فرقا يذكر بين من قاموا بأول انقلاب وبين من قاموا بآخر انقلاب ـ إن استقام انه الأخيرـ وبين مبرراتهم للانقضاض علي السلطة وممارساتهم على ارض الواقع إبان حكمهم, بل ما وجدته حقيقة يثبت أن المؤسسة العسكرية التي متعت نفسها بالقوة مجردة من أي حق, لم تتحرك يوما استجابة لدواع وطنية أو رغبة في إحداث تغيير حقيقي, بل كانت الدوافع في غالبها شخصية يتداخل فيها العامل الخارجي مع غيره من العوامل لأفراد أو مؤسسة استمرأت الدوس على الشرعية وخيارات وتطلعات الشعب منذ سبعينيات القرن الماضي, فلم تفرزـ ولتلك العقودـ سوي حكام جهلة, كل لاحق منهم أسوأ من سابقيه, مما يعني فشلها النهائي وسقوطها من قلوب الناس قبل سقوطها في الممارسة والواقع ,
فالعقيد معاوية ليس بأبر أو أزكى من المقدم هيدالة!, والعقيد أعل ليس بالطبع أفضل من ولد الطائع, والجنرال ولد عبد العزيز قد جمع مثالب كل من سبقوه, وظني أن غزواني, ومكت, ومسقارو, وباقي الجنرالات لن يكونوا أحسن حالا ولا مئالا من أسلافهم, حيث لم يجلب هؤلاء القادة العسكريون المتصارعون علي السلطة والنفوذ طيلة هذه الفترة لهذا الوطن سوى الخراب والدمار, فأجرموا في حق هذا الشعب وبنوا مجدهم الزائف على إذلاله وغناهم المطغي على إفقاره, ليسلس انقياده ويسلم زمامه, فباتت نسخة حكم العسكر الراهنة من الرعونة وسوء التدبير بما ينذر بمزيد من الانقلابات أو بما هو أخطر نتيجة التخبط في السياسات المتبعة من قبل الجنرالات وحكومة المقاولة وأصهار الضباط الموظفين عندهم,
إن الحديث عن الانقلاب والانقلابيين دون الرجوع إلى أصل الداء ومحاولة معرفة الدواء يظل من فضول القول وهو ما دفعني هذه المرة للحديث عن انقلاب وجدت أن تناوله في هذا الظرف أولى, لأنه ومن وجهة نظري قد يكون السبب الأصلي والمباشر لكل الانقلابات التي حدثت, والتي ستحدث!, إنه انقلاب المنظومة القيمية والأخلاقية للقادة العسكريين الذين اصطنعهم المستعمر على عينه ورباهم في كنفه, وهو أمر يدركه بيسر وسهولة أي شخص تتبع الواقع أو استنطق التاريخ,
تذكرت وأنا بصدد تناول هذا الموضوع ما حدث به عبد الله بن عمر, من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم الشام, تلقاه أبو عبيدة وهو قائد جند الشام وأميره عليه فسايره حتى دخل منزله، فقلب عمر بصره في بيت أميره, فلم ير فيه شيئاً سوى سلاح له ورحل وشن وصحفة، فقال عمر أعندك طعام ؟ فقام أبو عبيدة إلي جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر رضي الله عنه ...,
ومعذرة إليك أيها القارئ الكريم وإلى التاريخ, فلي مقارنة بين الفضيلة والرذيلة ولا بين الأمين والخائن, إنما أردت فقط أن أعرج بكم علي منازل قادة جند جاد الزمان بهم قبل أن أعود بكم إلي منازل جنرالات ابتلينا بهم لنري سويا ماذا في منازل الفريقين ونري قبل ذالكم عظمة النفوس أو إسفافها لندرك أن التربية هي من صنع النموذجين حيث تحري الخلفاء في قادتهم الأمانة والرحمة والشفقة علي الرعية, باعتبار اختيارهم من باب النصح وأداء الأمانات, فكانت أهم صفاتهم عندهم سلامة المعتقد والعلم الشرعي والصدق والكفاءة والمروءة والقدرة علي حل المشكلات, فكان أن ساد العدل وفاضت الرحمة وعم الخير,
أما تربية المستعمرـ والتي ركز فيها على جيوش المستعمرات, حسبما ذكره المفكر الجزائري: مالك بن نبي في كتابه مشكلات الحضارة, من أن السلطات الفرنسية وضعت أول بيت للدعارة من أجل الجيش, وكان الحديث عن المدينة الجزائرية التي أوردها نموذجا لسياسات المستعمر في البلاد المستعمرة ـ فكانت إجهازا على ما تبقي لدي القلة الباقية لأبناء المستعمرات من وازع أو ضمير, فلم يسمح بالالتحاق بالمؤسسة العسكرية إلا لمن يحمل مواصفات معينة سواء على مستوي التفكير أو المفاهيم والسلوك..., وكان لا يقبل داخل صفوف الجيش المتدينون ولا أصحاب المبادئ والمروءات, ولا من لهم مواقف مستقلة أو رأي حر, فترنح الجندي القائد من قمة المجد ومعاني الفروسية والرجولة والنجدة ومكارم الأخلاق, إلي قاع الرذيلة والفساد والانحطاط الأخلاقي,
بيد أن رحيل المستعمر الظاهري لم يعن بحال وقف مسلسل الانحدار, بل إن وكلاء المستعمر من بعده تحروا في القادة والولاة أمورا أهمها أن يكونوا من أسفل أهل طبقتهم أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة أو حسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته, علي حد وصف عبد الرحمن الكواكبي, وفعلا كان الأمر كما وصف, حيث نجح المستعمر في توريث قيمه ومفاهيمه لنخبة من القادة العسكريين يعملون وفق مخططاته وأجنداته يقسمون له على الولاء يعزلهم أو يوليهم لقاء مصالح ذاتية أهمها إبقاء السلطة بأيديهم,
إن الواقع الذي أوصلتنا إليه اليوم شلة العسكر الحاكمة هذه, أصبح من السوء بما لا يسع السكوت عليه , فالدكتاتورية والاستهتار بالوحدة الوطنية, وضرب مكونات الشعب بعضه ببعض, وإحياء ورعاية جاهلية القبيلة, وتكريس الفساد والاتجار بالمخدرات, ورعاية الإرهاب, وإثقال كاهل المواطن بالضرائب والإتاوات, وتعطيل المؤسسات الدستورية, والتلاعب بمقدرات الأمة وبيع ونهب ثرواتها, وغياب العدل وإفساد الأخلاق وانعدام الأمن وفقدان الأمل ...أمور كلها محاسن نظام العسكر, فلا يتوقع منه غيرها مادامت هذه خلفيته وتلك تربيته, ومادام هذا أسلبه ومبلغ علمه, حتى يتخلي عن السلطة طوعية ـ وهو أمر مستبعد ـ, أو ينتزعها الشعب عنوة ويعيد الأمور إلي نصابها وهو قدر حتمي, آن أوانه ولاحت بوادره يحسبه الجنرالات بعيدا ونراه قريبا,
إن هذا الشعب الذي ظل منذ مطلع القرن الماضي يصارع الاستعمار الأجنبي المباشر ويقاوم مخططاته الاستعمارية بأشكال المقاومة المختلفة حتى انتصر عليه في النهاية وطرده, مصمم على أن يظل يقاوم ويصارع وبنفس القوة وكلاء المستعمر ووسيلته في إخضاع الشعب ونهب خيراته في هذا القرن إلى أن ينتصر عليهم, وسينتصر إن شاء الله.