الشعب الموريتاني يعيش فراغا تنظيميا هائلا بسبب ضعف الأطر التقليدية وعدم موافقتها للحياة العصرية كالقبيلة و العشيرة التي ما من شك في أنها لا تزال موجودة وستبقي لكنها لم تعد تمارس أدوارا سياسية مقبولة في الدولة الحديثة ومع ذلك لم توجد
بدائل حقيقية يمكن أن تحقق أهداف هذا الشعب في الحرية والديمقراطية والمساواة ،فما طبيعة الأحزاب القائمة ؟ وكيف يمكنها أن تنهض بمشاريع ديمقراطية تؤسس لقيام مجتمع المواطنة ودولة القانون؟
الحزب السياسي هو المؤسسة الحديثة القادرة علي استيعاب الأفراد والمجموعات وتنظيمها وتأطيرها والدفاع عن حقوقها وتحقيق طموحاتها ، والدولة الموريتانية عرفت الحزبية من خلال الأطر القبلية وأنتجت تجربتنا أبنية تنظيمية تستخدم فيها القبيلة الحزب السياسي كواجهة مقبولة لذات الممارسة القديمة .
البداية كانت مع الأحزاب التي أنشاها الإستعمار الفرنسي لخدمة مشروعه وترسيخ قيم ثقافته أو تلك التي نشأت متأثرة بالجوار الإفريقي والعربي وهي أحزاب تنتمي لذات الثقافة وتنهل من نفس المعين وكان حزب الدولة الكبير أو حزب الشعب قد جمع كل الخلفيات ووحد بين الأحزاب الموجودة إبان قيام الدولة واستنسخ تجربة الحزب الواحد من الصين الشعبية والدول الإشتراكية وقتها وأضافها إلي الرصيد السياسي الحاصل لدي أحزابنا من التجربة الفرنسية . لقد أدي ذلك إلي ضبابية في المفهوم السياسي للحزب وترسخ للممارسات القديمة والموروثة عن الأطر القبلية وأصبحت الزعامات القبلية توجه الحياة السياسية وفق أجندتها الخاصة بما يحقق مصالحها ويضمن نفوذها داخل الحزب ومع ذلك فقد انطلق وعي حزبي حقق مستوي من الممارسة الديمقراطية تجسد في شكل الإنتخابات وأسلوب التفاهم السياسي والتضامن الإجتماعي الذي تجاوز بكثير حدود الإنتماء القبلي إلي رحاب المدينة أو القرية أو الجهة وبرز التنافس بين الجهات أو الولايات وكانت تسمي بالأرقام (الأولي والثانية والثالثة ....) تجريدا لها من كل مضمون قبلي أو عرقي قديم مما ساعد في بلورة مفاهيم سياسية حديثة ومنسجمة مع أهداف قيام الدولة الموحدة .
وخلال تلك الفترة دخلت إلي البلاد حركات سياسية إديولوجية متعددة المشارب
1-الحركة الوطنية
تعود جذور الحركة الوطنية الديمقراطية والحركة الديمقراطية الوطنية إلي مرحلة حزب النهضة وحركة الشباب الوطني وقد اندمج العنصر الزنجي في الحركة الثانية مع العنصر العربي في الحركة الأولي وتكونت الحركة الوطنية الديمقراطية (الكادحين) وقد عرفوا بنضالاتهم ضد سياسات الإستعمار التي ورثها النظام السياسي الذي نصب لحكم البلاد وقد أسس الكادحون في ما بعد حزب اتحاد قوي التقدم الموجودة حاليا ويمتاز بعقيدته الإديولوجية الراسخة وبأنه أكثر الأحزاب قدرة علي استيعاب شرائح المثقفين التقدميين أو اليساريين كما أن له تاريخا طويلا في النضال من أجل ترسيخ قيم المواطنة والحرية لكن حدة الخلافات وقوة الضغوط حدت من قدرة الحزب علي التأثير القوي في المجتمع والدولة .
2- الحركة الإسلامية في موريتانيا
تأسست الحركة متأثرة بكتب حسن البنا وابو الأعلي المودودي وسيد قطب ومحمد قطب وغيرهم والإسلاميون كغيرهم من الحركات في العالم الإسلامي تيار واسع يتمتع بقواعد شعبية كبيرة ويعد فصيل الإخوان في موريتانيا هو الأكثر تعبيرا عن الحركة الإسلامية عموما وكانت دعوته منذ البداية لتطبيق الشريعة الإسلامية سببا مباشرا للصراعات التي خاضها معه التيارات الأخري وقد تبني أول نظام سياسي عرفته البلاد مبدأ تطبيق الشريعة وتلاه نظام ولد هيدالي العسكري لكن هذا التيار ظل علي مسافة من جميع الأنظمة ويؤخذ عليه ضعف المؤهلات الثقافية العصرية التي تؤهله لقيادة البلاد نظرا إلي أن أغلب منتسبيه من طلاب المحاظر والشيوخ التقليديين ومع ذلك بدأ هذا التيار ينسجم مع معطيات العصر وقد يستفيد من الربيع العربي وتوجه شعوب المنطقة نحو الحكم الإسلامي هو بالطبع الأكثر جاذبية لعامة الشعب إذا استثنينا المنتمين للثقافة الغربية .
3- التيار القومي
أ- البعيثون
وهم التيار الأكثر تنظيما في مراحل قيام الدولة وانتشار الإديولوجيات وقد استطاع البعثيون التوغل في النسيج الإجتماعي واستمالوا فيئات كبيرة من الشباب وتمكنوا من إقامة تنظيم سري مدني وعسكري وخاضوا صراعا مع الأنظمة العسكرية التي تمكنوا من التحكم في بعضها(ولد السالك) والعمل علي إسقاط بعضها الآخر(هيدالة).
ويمتاز هذا التيار بتبني عقيدة فكرية قومية تجمع بين التراث العربي والنهضة العلمية وكانت أطروحات مفكري البعث في الوطن العربي مدار نقاش أكاديمي واسع ، لكن جاذبية هذا التيار قد نقصت كثيرا باستشهاد القائد والشهيد البطل صدام حسين ومع ذلك أثر هذا التنظيم كثيرا علي قناعات المثقفين العرب المنتمين له وجعلهم أكثر استعدادا للإيمان بقيم المواطنة رغم أن التيار الزنجي يأخذ عليهم عصبيتهم الإديولوجية
ب- الناصريون والقذافيون
يسمي أحد المفكرين العرب التيار الناصري بالمدرسة الإبتدائية التي ينقصها الوعي المكتمل وتعوزها النظرة العميقة للأمور وهو تيار تشبع بالإعجاب والعاطفة القوية بانقلاب عبد الناصر وخطاباته الثورية وأراد تأسيس التنظيم الشعبي ،العفوي الواسع في البلاد العربية ،وساهم هذا التيار في تأجيج النعرات العرقية والعصبية وكلف البلاد ردة فعل قوية من القوميات الزنجية .وشارك التيار في صنع الأحداث من خلال التحامه بجميع الإنقلابات التي حدثت في البلاد نظرا لطبيعة وخلفية الإنقلابية فهو التيار السياسي الوحيد الذي لا يجد صعوبة فكرية أو منهجية في تبني الإنقلاب ودعمه والمساهمة فيه أحيانا ولعل القذافيون هم الأكثر وضوحا وجرأة في طرح مسألة الإنقلاب والديمقراطية ، فالبنسبة لهم "من تحزب خان" والديمقراطية العسكرية المباشرة هي الأسلوب الأمثل لحكم العرب خاصة وليس الديمقراطية الغربية الإستعلائية والإستعمارية .
4-حركة الزنوج (أفلام)
تقول المصادر إن "تنظيم "افلام" جاء نتيجة اندماج أربع منظمات سياسية سرية تتقاطع جميعا في تبني قضية الزنوج الموريتانيين وتعتبر أنهم ضحية سياسة عنصرية يتبناها النظام السياسي الموريتاني الذي يهيمن عليه العرب وتتمثل أهداف الحركة في (الدفاع عن حقوق الزنوج على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية).
لكن هذه الحركة بدت للجميع (حتي المراقبين الخارجين ) حركة عنصرية تسعي لتغيير ديموغرافيا البلاد وتدعمها قوي خارجية معادية للوطن والدولة (الكيان الصهيوني) وفي كل الأحوال فقد رسخت هذه الحركة قيم الفئوية والعنصرية وكانت نتائج مخططاتها مكلفة لتماسك المجتمع ووحدته الوطنية.
5- حركة الحر
حركة تحرير لحراطين بموريتانيا المعروفة اختصارا بحركة الحر (بدأت مع مبادرات شخصية كانت نتيجة للتجربة والمعاناة التي يعيشها المنتمي إلي شريحة "لحراطين" بمفرده وفي وسطه التقليدي الاجتماعي، حيث الظلم وعدم الثقة التي كانت شريحة "لحراطين" تعاني منهما بشكل كبير في تلك الفترة وشعور لحراطين [أنهم موطنين من الدرجة الثانية ) وتعترف الحركة بأن لحراطين جزء من شريحة البيظان من حيث الإنتماء الديني والثقافي وقد شجعت الحركة علي الظهور دعوة القوميين البعثين للتوحد بين العرب و"العرب السمر" وهي التسمية اليي لفتت انتباه مؤسسي الحركة وهو ما جعل البعض يعتبر أن الحركة نشأت في أحضان البعث وتشبعت بأطروحاته قبل أن تتجاذبها الصراعات والتوجهات .
وليس لهذه الحركة تأثير سلبي كبير علي وحدة المجتمع بالقدر الذي حققت فيه الحركة وعيا يعد ضروريا لقيام مواطنة متساوية .
لكن نزعات عنصرية أخري بدأت في الظهور علي هامش الحركة وخارج أطرها الشرعية باتت تؤسس لدعوة عنصرية تزرع الكراهية بين أطياف المجتمع .
إن تلك الحركات والأحزاب هي المنبع الأساس في قيام الأحزاب السياسية الموريتانية ويمكن تصنيفها إلي ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولي تضم كل الأحزاب ذات الجذور التاريخية والنضال الطويل منذ ما قبل الإستقلال الوطني ولا تزال تسير في نفس الإتجاه وهي أحزاب قليلة تعد علي رؤوس الأصابع و تنتمي للمعارضة بشقيها غير المحاور والمحاور.
هذه الأحزاب عانت من سياسات الدولة (منذ الإنقلاب الأول علي السلطة المدنية) الهادفة إلي محاصرتها والضغط علي قياداتها وزرع الخلافات داخلها ومنع انتشارها وتنمية وعي معاكس لأطروحاتها لدي المواطنين البسطاء.
لكنه من الواضح أن مستقبل الديمقراطية مرهون بنجاح تلك الأحزاب في الوصول إلي السلطة وقيادة البلاد في اتجاه نهضة اجتماعية وتنموية حقيقة تؤسس لقيام دولة العدل والمساواة والمواطنة الحقيقة .
المجموعة الثانية : تضم الأحزاب الصغيرة التي أسسها مثقفون ومناضلون من أجل الحرية والكرامة أو خرجت من رحم تلك الأحزاب "التاريخية" وهي أكثر قليلا من الأولي وتوجد أيضا ضمن كشكول المعارضات القائمة ولا ينقص قيادات تلك الأحزاب الوعي الضروري أو القدرة علي المساهمة في إنجاح مشروعة الدولة الحديثة لكنها تعاني من ضعف في الإمكانيات و الإنتشار الواسع نظرا لإعتمادها علي شخصيات وطنية محدودة الدخل.
إلا أن مساهمة تلك الأحزاب تعد مهمة في ترجيح كفة المناضلين من أجل موريتانيا القوية و الديمقرطية
المجموعة الثالثة : تضم أحزاب السلطة الحاكمة والشخصيات الداعمة لها وهي في الحقيقة ليست أحزابا بالمفهوم الدقيق للحزب السياسي، ولكنها أطر مرحلية أو موسمية تستخدمها الأنظمة العسكرية في توجيه السياسة المحلية والتحكم في المجتمع من خلال واجهات ديمقراطية لممارسة تقليدية تعتمد علي النفوذ والقوة والمادة .
لا يجادل أحد في أن صفحة تلك الأحزاب ستطوي مع رحيل العسكريين عن سلطة البلاد وأن المتواجدين في تلك الأطر السياسية ينتمون لجميع التيارات في الساحة العربية والوطنية وسيعودون إلي مواقعهم كما ظلوا يفعلون دائما عند سقوط كل نظام .عسكري.
ما يمكن أن نستنتجه من هذا التحليل هو أنه توجد معوقات واضحة ومتجذرة في ممارستنا السياسية القائمة لامناص من مجابهتها والتصدي لها .
إن إسقاط أنظمة العسكر يمر حتما بالقضاء علي أجندة تلك الأحزاب الموسمية وشخصياتها المتمصلحة من خلال عزلها وكشف ممارساتها الخطيرة علي وحدتنا وديمقراطيتنا وتقدمنا .
إن النفوذ القبلي توظفه تلك الأحزاب وتحافظ عليه وتنميه في سبيل منع قيام أحزاب وطنية قوية وقادرة علي صهر المجتمع من جديد في إطر عصرية قابلة للبقاء وملائمة للمرحلة التاريخية كما أن بعض التيارات العنصرية تستفيد من تلك الأوضاع وتعمل سرا علي تخريب الأحزاب من الداخل وتفتيتها واستخدامها وسيلة للإسترزاق من الأنظمة العسكرية وهم أشخاص كثر يمثلون خطرا جسيما علي أحزاب الوعي .
إن مسيرة البلاد نحو الديمقراطية والتنمية والعدالة تتطلب توحد المؤمنين الصادقين في خندق واحد من أجل إفشال مخططات المتمصلحين وأحزاب الإسترزاق وإديولوجياته وذلك بالوقوف في وجه الإنتخابات الأحادية القادمة ومواصلة النضال وتصعيده من أجل كشف أجندة العسكريين ورفقائهم وأحزابهم .
الحاج ولد المصطفي: [email protected]