تعتبر التعددية الثقافية عاملا أساسيا في ثراء المجتمعات وعمقها التراثي؛ الشيء الذي يساهم في تحقيق هوية حضارية ذات ألوان وشيات متنوعة، وقد أولت الأمم المتحدة التنوع الثقافي عناية كبيرة، وخصته بترسانة قانونية ضخمة؛ سبيلا إلى حمايته وحفظه؛ بما هو شرط لوجود الإنسان وبقائه، ومن هنا كرست اليونسكو يوم 21 مايو من كل سنة كيوم عالمي للتنوع الثقافي؛ معتبرة أن "التنوع الثقافي قوة محركة للتنمية ليس على مستوى النمو الاقتصادي فحسب؛ بل أيضا كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية ورحية أكثر اكتمالا"
ومن الملاحظ أن ثلاثة أرباع الصراعات حول العالم تعود إلى خلفيات ثقافية؛ مما يعني أن حالات تغول بعض الثقافات على الأخرى أو محاولات تهميش بعض الثقافات أو تحجيمها أو مضايقتها لا يمر دائما بسلام، وقد يستدعي ردود فعل عنيفة بل دامية أحيانا، ومن ثم فلا بد أن تشعر كل ثقافة بقدر من الإنصاف والطمأنينة على حريتها واستقلالها
وقد حبا الله بلادنا موريتانيا بتلوينات ثقافية جميلة استطاعت أن تحقق نوعا من التثاقف البناء في جو من المودة والإخاء يطبعه التسامح والإيثار؛ الشيء الذي أدى إلى أن تظل راية السلام خفاقة – بحمد الله – على ربوع وطننا الغالي طيلة العهود التاريخية التي مرت به، وظلت المظاهر الثقافية المختلفة من أزياء وعادات وتقاليد ونظم حياة وآداب وفنون تتعايش جنبا إلى جنب في وئام تام وفي حرية كاملة بدون أن تعتدي ثقافة على ثقافة، أو يطغى نمط حياة على نمط حياة آخر، أو تذوب هوية في أخرى
ومن الطبيعي أن ينشأ عن هذا التثاقف والتعايش السلمي بين ثقافاتنا الوطنية المتعددة تأثر وتأثير متبادلان؛ نجد مظهرا من ذلك في اللغات الوطنية؛ حيث يلاحظ – بشكل يكاد يكون لافتا – التقارض اللغوي بين لغاتنا الأربع (الحسانية والولفية والبورية والسوننكية) فهناك هجرة الألفاظ والمفردات من لغة إلى لغة، وهناك تقاسم الملح والنوادر والأمثال الشعبية بين هذه اللغات، وإلى جانب التأثر والتأثير على مستوى اللغات نلاحظ أيضا الشيء ذاته على مستوى الأزياء، والفلكلور الشعبي، والعادات والتقاليد، ونمط العيش بشكل عام، ولعل الجانب الفني من أكثر الجوانب التي يلوح فيها التأثر والتأثير بين ثقافاتنا المتعددة بشكل جلي وواضح؛ فعالم الموسيقى والغناء عند البيظان (الطيف العربي مثلا) تبدو فيه السمات الإفريقية الزنجية أكثر وضوحا من السمات العربية الخالصة...
ولا شك أن التنوع الثقافي رافده المهم هو الإبداع الأدبي أيا كان شكله، ولكل تلوين ثقافي عندنا – بطبيعة الحال – أدبه المتميز الذي يمتاح من هويته القومية ومن تراكمه الإبداعي داخل اللغة نفسها، كما من التراكم الإبداعي في اللغات الأخرى ذات القواسم التاريخية المشتركة، وفي هذا السياق يبدو التثاقف مثمرا وبناء جدا، ويمكن للدارسين في الأدب المقارن أن يستثمروه، وأعدهم بأن يحققوا منه نتائج مرضية تلبي طموحهم كباحثين
وإذا كان من خطر يتهدد هذا التنوع الثقافي فهو يكمن في العولمة ومراكزها الثقافية المهيمنة التي أصبحت الثقافات الكبرى ذات العمق التاريخي العريق والأصيل تجد فيها تهديدا وجوديا لبقائها واستمرارها كثقافة مستقلة ذات امتداد وعمق حضاري خاص؛ فما بالك بثقافات الأطراف ذات التكوين البنيوي الهش، والعمق التاريخي المهزوز؟
إن تنوعنا الثقافي يتضرر كثيرا – في بعده اللغوي – من مخلفات الاستعمار وخاصة اللغة الفرنسية؛ فهذه اللغة تهدد هويتنا القومية بمختلف مكوناتها، وتكاد تجعل من نفسها الأرضية اللغوية التي نقف عليها جميعا، ولا يخفى ما في هذا – بطبيعة الحال – من استعمار ثقافي مقيت لا نزال نخضع له رغم مرور أزيد من ستة عقود على "الاستقلال السياسي"
إن معالجة هذا المشكل تبدو كامنة في تفعيل المادة السادسة من الدستور التي تقرر بأن اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة العربية، ومن آليات تفعيل هذه المادة سن قوانين تلزم باستعمال اللغة العربية في كافة الوثائق الإدارية التي تصدر عن مختلف الإدارات والمرافق العمومية، ناهيك عن تفعيل تدريس اللغات الوطنية في التعليم الأساسي والثانوي، وفي التعليم العالي من خلال نفض الغبار عن قسم اللغات الوطنية الذي بكلية الآداب واكتتاب طلبة وأساتذة له حتى يكون حيويا ونشطا كباقي أقسام الكلية، وبذلك وغيره من أساليب دعم اللغات الوطنية نستطيع أن ننهض بهذه اللغات؛ لتقوم بدورها في التواصل بين أبناء الشعب الواحد، وتعود الفرنسية إلى مرابع موليير فلديها هناك من المشاكل ما يكفيها!
إن تنوعنا الثقافي الجميل تؤطره وحدة الوطن، والدين، والتاريخ، والمصير المشترك، وهي وحدة صلبة تتحطم عليها كل المآرب الساقطة والدعاوي المغرضة التي يروج لها سماسرة الفتنة والمتاجرة بالعرق من أجل الزج بالوطن في أتون دعايات غير محسوبة العواقب
إن تلويناتنا الثقافية المختلفة تنطلق كلها من الدين الإسلامي الحنيف، ومن المذهب المالكي، ومن العقيدة الأشعرية؛ إذن نحن مسلمون جميعا سنيون جميعا مالكيون جميعا أشعريون جميعا، متمسكون مع ذلك بالوطن الواحد والتاريخ الواحد والمصير المشترك؛ بما هي أقانيم تجمعنا جميعا
إن ثقافاتنا الوطنية بتلويناتها القزحية الجميلة لا بد أن تنظر نظرة خاصة إلى ذلك اللون السماوي الذي يتألق بين ألوانها؛ إنه اللون العربي... لون القرآن... لون العبادة... لون الإسلام الذي نؤمن به جميعا وندين به جميعا...؛ لغة الذكر الحكيم – إذن – يمكن أن تكون لغة جامعة لنا جميعا نتفيأ ظلالها الوارفة ونتذوق بيانها الآسر؛ على أن يأخذ كل واحد منا الزاد المستطاب من اللغات الوطنية الأخرى