اشتد هيجان الربيع العربي و تلبدت السماء غيوم و انهمرت سحب و سيول دامية، تجرف الدول والشعوب، تهلك الأبرياء وتسحق الضعفاء والأقوياء معا، والحكام والسلاطين والملوك، لا تبقي ولا تذر، ولا عاصم منها إلا رب القدر. هبت تلك العاصفة وانقطع الصمت،
وتعالت الصرخات تطبق ما بين السماء والأرض، تطالب بإسقاط النظام، لا يهمها إن كان مغتصب للسلطة أم كان منتخب، المهم أن يسقط فقط. تداعتأركان إمبراطوريات لم تغب عنها الشمس من قبل، فتهاوى سلاطينها من فوق عروشهم كجلاميد حطت إلى قاع سحيق. ورغما عن سقوط تلك الأنظمة، لم يهدئ هيجان الشعوب!
لم يسلم بلد ولم يستتب حال، وحتى البلدان التي تم حصادها لم تغادرها العاصفة، وكأنها تحولت فيها لإعصار جامد يقتلع الأشياء من جذورها ويعلقها في السماء قبل أن يهوي بها إلى منحدر عميق.لم يستتب الوضع في مصر بعد الدكتاتور مبارك، ولا بعد مرسي المنتخب، ولم يستتب في ليبيا، ولم يستتب في تونس، ولم يستتب في سوريا، ولم يستتب في البحرين، ولم يستتب في البلدان التي توهمبالاستقرار. ولم ولن يستتب فينا إلا إذا أحسنا التدبير. هبت العاصفة من قبل في رومانيا فحصدت الدكتاتور "شوسسكو"، ثم هبت في تركيا فحصدت دكتاتورية الجيش، وهبت قبل ذلك في جنوب إفريقياوحصدت النظام الميز العنصري وجاءت "بنيلسون مانديلا"، ذلك الزعيم النموذجي الذي يندر أمثاله.
ليس التحدي اليوم إشعال الثورة وحصد الأنظمة، بل التحدي ترويضها لتكون سلمية والنجاة بالبلدان من سلبياتها وويلاتها؛ فلولا مانديلا ما اجتازت جنوب إفريقيا الاختبار ولولا أردوغان ما استقرت سفينة الأتراك، فمن لسفينة المنكب البرزخي من قبطان، يخرجها من ذالك الموج كالجبال. ليست البلاد معدومة الهَاماتِ، ولا النماذج ولا الرجال العظام. فينا المناضلون وفينا الشجعان وفينا الحكماء، وفيناأصحاب التضحيات الجسام. ليست مشكلتنا العدمية، ولا في قلةالكفاءات؛ بل المشكل هو الاختيار، فهلا نختار أحسن قبطان، ليعبر بنا ذلك البحر الهائج الذي تكاد تبتلع أمواجه سفينة مصر وسوريا وبلدان "الربيع" الأخرى.
إن الربيع الذي أسال أنهارا من الدماء و أناح الأرامل وأبكي وشرد وأجاع الأيتام، خضناه دون أن يسفك ماء ولا تنطح شاة، شاة. إن الحوار الذي شهدناه سنة 2011، سيغير الخارطة السياسية ونموذج الحكم رأسا على عقب. لن يكون بعد الانتخابات القادمة حزب حاكم، يتمتع بأغلبية الأصوات في البرلمان؛ فنظام النسبية الذي تم تعزيزه في الحوار الأخير، وكذلك استحداث لائحة وطنية للنساء، سيجعل ثلاثة أخماس البرلمان تنتخب بالنسبة؛ وعليه لن يكون بإمكان أي حزب من الأحزاب، مهما اتسعت قواعده أو تعددت وسائله، أن يحصد فوق 30 إلى 35% من مقاعد البرلمان القادم. ولن يستطيع حزب لوحده تشكيل الحكومة القادمة، إلا إذا تكتل مع أحزاب أخرى للحصول علىالأغلبية البرلمانية.
ونظرا لضعف أحزاب الأغلبية، باستثناء الحزب الحاكم، فإن الأخير لن يستطيع تشكيل الحكومة القادمة مع أغلبيته الحالية، وسيكون مضطرا للتحالف مع حزب أو أحزاب من "المعاهدة" للحصول علىأغلبية برلمانية، إن لم يلجئ لأحزاب منسقيه المعارضة. ثم إنه، إن لم تكن الأغلبية النسبية في الانتخابات القادمة من نصيبه، فإننا سنشهد، لأول مرة في تاريخنا السياسي، تعايشا بين حكومة معارضة ذات أغلبية برلمانية، مع رئيس مجموعته أقلية؛ وعليه فإن نموذج الحكم القائم سينتهي بعد الانتخابات القادمة وسيحل نموذج آخر، لا يوجد فيه حزب حاكم لوحده ولا حكومة من نفس الحزب.
سيتقلص نفوذ رئيس الجمهورية لغياب الحزب الحاكم، وسيتراجع نفوذ حزبه؛ وسيكون من السهل سحب الثقة من الحكومة، كما سيتعاظم نفوذ الأحزاب الممثلة فيها لأنه بوسع كل منها إسقاطها بمجرد انسحابه منها، وعندها تكون ملزمة بالبحث عن حلفاء جدد لتشكيل أغلبية برلمانية جديدة و لتشكيل حكومة أخرى. ويتعزز ذلك لتضمين بنود الحوار، رفض ترحال النواب، حيث أن تِرحالَ النائب من حزب لآخر يفقد الرحالة مأموريته، ويبقيها لحزبه. وبما أن الترحال لم يكن يوما إلا للأسباب النفعوية الشخصية، ولم يكن أبدا لدواعي قناعات سياسية، فإنه لن يحدث مستقبلا، كما شاهدنا ذلك منذ انتهاء الحوار. وبذلك يحرم الحاكم وحزبه إمكانية استيراد نواب من خارجه لتشكيل أغلبية برلمانية يحكم بها، مما يضطرهم لتقاسم الحكم مع أحزاب أخرى.
نجحنا بعبقرية، اجتياز الاختبار الأول - التوصل لنتائج الثورة دون الغرق في دمائها- وما زال علينا النجاح في تجسيد ما حققنا وإدخاله في قيمنا ومعاملاتنا السياسية. خفَّت حدة التوتر، وخففتمنسقية المعارضة من حدة خطابها، ولم تعد مسرفة في طلب الترحالإلى المجهول؛ واستطاع الرئيس المنتخب الاستمرار في مأموريته ولو بشكل لم يكن مرضي للجميع، ولكنه أفضل من ترحيله وإبداله بنائب مجلس الشيوخ أو بالجنرال القائد العام للأركان فنرجع إلى الحقبة العسكرية الصرفة. لم يكن ليخلف ولد عبد العزيز بعد ترحيله إلا هذانالاثنان، وأكاد أجزم أنه لم يكن ذلك ليكون أفضل من الوضع الذي نحن فيه، وأنه سيعيدنا للوراء زمان بعيد. لم يكن ليخلف ولد عبد العزيز بعد ترحيله القسري، أحمد ولد داداه، ولا جميل ولد منصور، ولا محمد ولد مولود، ولا أحد من الزعامات المطالبة بترحيله لأنه لا شرعية لخلافتهم له ولا يشكلون إجماعا وطنيا يرجحهم لذلك. لم يكن ليخلفه إذا إلا من كانوا سيردوننا للوراء إلى أبعد مما توصلنا له اليوم.
إن التحدي اليوم هو الحفاظ على المكتسبات، التي تم بالفعل تحقيقها.فعلى الرئيس ولد عبد العزيز أن يركن للتشاور مع الطبقة السياسية، وأن يتوقف عن التسيير الأحادي لملف الانتخابات؛ فالتاريخ الذي حددته اللجنة المستقلة للانتخابات، لم يتشاور عليه، ويستحيل إجراء انتخابات شفافة فيه، لعدم توافق الجميع عليه، ولعدم توفر الآليات الموضوعية لإعدادها. فالإحصاء لازال لم ينتهي، لم يحصى من المواطنين إلا مليونين ونصف، وما زال ثلث السكان لم يتم إحصائهم بعد؛ ولم يتسلم بطاقات تعريفه ممن تم إحصائهم إلا القليل، ثم إن الطبقة السياسية لم تتفق على التوقيت المناسب لإجراء الانتخابات.كل هذه العوامل تجعل المضي في الإعداد للانتخابات في التوقيت الذي حددته اللجنة الوطنية للانتخابات دون تشاور مع الطبقة السياسية، مضيعة وقت وموارد وأموال، ولن يغني من حل الأزمة السياسية شيء.
وبغض النظر عن عدم موضوعية الظروف الحالية لإجراء الانتخاباتالبرلمانية والبلدية في التوقيت الذي حددته اللجنة المستقلة منفردة، فإن هذه الانتخابات لن تكون في صالح النظام، لأن نتائجها، على أقل تقدير، ستجعله في وضعية سياسية أسوء مما هو عليه الآن، إذأنه من المستحيل - إن شاركت المعارضة، وتأسيسا على نظام النسبية في الاقتراع الذي دعم في الحوار- أن يحصل على الأغلبية البرلمانية؛ولن يكون بوسعه تشكيل حكومة لوحد، وعليه، فإنه سيكون ملزمبالتنازل عن بعض الحقائب الوزارية ولربما عن الوزارة الأولى أو عنرئاسة البرلمان أو رئاسة مجلس الشيوخ لحلفائه الجدد الذين سيشكلون معه الأغلبية البرلمانية القادمة. ومن هنا لا يفهم تسارع النظام لإعداد الانتخابات القادمة، إلا إذا كان ذلك "لغاية في نفسه": أن تقاطع المعارضة فيخلو له الجو فيطير و.... فينتخب البرلمان كله من أغلبيته الحالية، ويشكل حكومته كما يشاء، وتبقى الأزمة تراوح مكانها.
إن موريتانيا، كسائر البلدان العربية وكذا الإفريقية لا تزال علىأعتاب هزات قوية قد تهدد كيانها إذا النخبة والطبقة السياسية والحاكمين لم يتداركوا ويعودوا للغة الحوار والتشاور لردم الهوة التي حدثت منذ الانقلاب على سيدي ولد الشيخ عبدالله، والتجاذباتالسياسية التي عقبته. إن الرئيس الذي تباهى بالتضحية من اجل مصلحة البلاد، لدى إنهائه لحكم ولد الطائع، عليه أن يدرك أن ذات المصلحة تستدعي منه اليوم أن يسمو لقامة الرئاسة، فيكون رئيساً للجميع ويعتمد لغة التشاور والحوار مع الطيف السياسي كافة، وأن لا يلجئ لانتخابات غير متوافق عليها ولا يمكن أن تكون شفافة، ولنتخرج البلاد من الأزمة الراهنة التي تتخبط فيها ولن تكون إلا مضيعة للوقت والمال؛ وعلى الطبقة السياسية أن تحكم التشاور في حل الخلافات وتتفق على توقيت مناسب للانتخابات وتخوضها حملةمسئولة، نزيهة تنهي التوتر القائم وتؤسس "لموريتانيا وحدها"، بعيدا عنف الترحيل ودماء الثورات.