لقد ذبل فينا مفهوم الوطن لدرجة أن تذروه الرياح، و فقدنا طعم الحرية لدرجة أن بِعناها بثمن بخس دراهم معدودة، و غابت في مخيلاتنا قضية الأمة لدرجة النسيان التام.
فلسطين بغزتها و ضفتها تعلمنا اليوم أن الوطن ليس فقط أرضا نعيش بها، و أمانا نرتع به، و حياة رغد و رخاء، تعلمنا أن الوطن وهج في الروح يسكن في سويداء القلب، و معنى وجداني يمتلؤ حبا و عزة و كرامة.
تذكرنا فلسطين بقداسة العلاقة بين الوطن و المواطن و متانة تلك الرابطة الأصيلة التليدة، في وقت يلعن فيه البعض وطنه لمجرد أنه لم يجد به عيشة رغد، فنرى الغزاوي جاثما فوق ركام منزله تدوي فوقه أصوات الطائرات المقاتلة، و المدافع الثقيلة، لا ماء و لا غذاء و مع ذلك يردد بأنه لن يغادر، فهو يتنفس نسيم الوطن و يتغذى بذكرياته و أمجاده .
و لأن الحرية هي رئة الحياة، يأبى الشعب الفلسطيني أن يخضع و يخنع للإحتلال رغم القبضة الحديدية التي يستخدمها المحتل و فظاعة التنكيل و التقتيل، إلا أن إحساس التحرير و الحرية أقوى من كل سلاح و عتاد.
و لعل العقيدة الراسخة لدى المقاومة و ثنائية الحرية و الوطن هم ما يغذي ذلك الصمود الأسطوري الذي نراه اليوم في مواجهة أهل غزة للعدوان الصهيوني الغاشم.
ثم إن الشعب الفلسطيني الذي لم يذق بعد طعم التحرير و الذي عاش حوالي قرنا من الزمن تحت سيطرة المحتل، هو شعب من نوع خاص، أنعقدت طينته على إيمان قوي بنته الآلام و المآسي و الدماء و النكبات،
و لقد صدق و أحسن وصفهم شاعرنا الأبي أحمد عبد القادر حين قال فيهم:
نحن شعب قد صلّبته المآسي
سهرته الآلام والنكبات
نسكن النار لا نبالي لظاها
زادنا العزم والإبا والثبات
نتلقى الشهيد عزا ونصرا
والضحايا توديعهم حفلات
ونغني للموت بل ونراها
في سبيل الحياة هي الحياة
ونغني حتى الجراح تغني
في الجماهير تكمن المعجزات
فمثلهم فينا ذلك الجيل الذهبي الذي قاوم المحتل أيام الإستعمار، و الذي تناسينا الكثير من قيمه و مبادئه ، و أعقبها إستقلال عقبه إستغلال لثرواتنا و إستعلال لثقافتنا و إستخفاف بهوياتنا نعيشه اليوم.
أما القضية الفلسطينية التي كانت أم القضايا الإسلامية و العربية، فقد أستطاع المستعمرون و المثبطون و المطبعون أن يضعوها في مؤخرة إهتماماتنا، حتى وصلت اليوم لدرجة أن يستفرد المحتل الصهيوني بغزة 116 يوما، قصفا و قتلا و تهجيرا و تنكيلا، فيقتل 30000 الف و يصيب عشرات الآلاف، و يهجر مليوني مواطن، دون أن يحرك العرب و المسلمون أصبعا، إلا ما كان من إدانة كلامية تحمل في طياتها إعترافا بالمحتل و دفاعه عن نفسه و حتى إدانة للمقاومة. أو ما كان من دعم في اليمن و العراق و لبنان يوصف أصحابه من طرف قادة الأمة بأنهم مارقون و متشددون و متطرفون، تناغما مع لغة و وصف المحتل و أعوانه.
فمنذ عقود و العالم يكيد للقضية الفلسطينية،فقد أبعدها عن المناهج التربوية في مدارسنا، و جعلها مجرد قضية معزولة في منابرنا الرسمية، و لولا صمود و عزة المقاومون لطمست من التاريخ.
إننا مسؤولون أمام الله و أمام أمتنا العربية و الإسلامية و أمام التاريخ و الضمير و الإنسانية عن ما يحدث في فلسطين، فهي نبض هذه الأمة و زئبقه الذي تقاس به كرامتها و شرفها و عزتها، و ما لم نجعلها أم القضايا، فستبقى الأمة في ذل و مهانة و عجز.
و لعل في الغد الكثير من الأمل، و لعل وعد ياسين يزيل وعد برفور،و يعيد فلسطين حرة عاصمتها القدس الشريف بإذن الله و فضله و نصره