توطئة../ : PRÉAMBULE
لم تعرف اوروبا حق نقد ملوكها الا في الأخير بعد معاناة مريرة استمر الحكم الالهي الشمولي الثيوقراطي المزعوم يحكم أقطار تلك البلاد قرونا وأزمنة متطاولة عن طريق استغلال الدين Les fameux Saints وتحريم العلم وأعدام العلماء بحجة الهرطقة ثم بدأ يتضعضع رويداً رويداً وخاصة بعد الاتصال بأصقاع أخرى من بلاد الإسلام بزعم حجتهم المدحوضة ألا وهو زعمهم اصطحاب الحضارة معهم للشعوب المنتهكة. واكتشافهم مقدار العلم والحضارة التي وصلوا إليها الى ان سقط نهائياً بفتح القسطنطينية سنة 1453م، كما ان الثورات مثل ثورة توماس هوبز 1651م، وجوك لوك 1690م الذي نادى بالحكومة والدولة المدنية وجاك روسو 1763م الذي دعا فيها الى نظرية العقد الاجتماعي محل نظرية العقد الالهي، ثم تبع ذلك ثورة الانجليز والامريكان والفرنسيين حيث جردوا الملك من صلاحياته، وجعلوا الشعب يراقب عمل الحكومة، فانقلبت اوربا من الثيوقراطية الى الديموقراطية وترسخ مبدأ منع الحكام من الظلم، وجاء الاعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948م المجمد ثم تلاه لاتفاقية الأوربية سنة 1953م التي تنص على حرية التعبير ثم تبعها الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب سنة 1962م، والذي كرس هذه الممارسات للحريات واعتبرت اعرافاً قامت عليها دول كبرى، ولما تشاوروا فيما بينهم ولم يستأثر أحدهم بالرأي دون الآخر استقامت حياتهم المادية وشيدوا المشاريع الناجحة لأغراضهم الدنيوية وساد لديهم النظام والقانون فعمهم الرخاء ابتلاءً من الله تعالى. قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مذمُومًا مَدْحُورًا} ويقول المفسر الشيخ عبدالرحمن السعدي: "وهؤلاء ان اهتدوا الى الصواب في هذه المسألة الا أنه غاب عنهم الحق في مسائل كثيرة"
وقد أرسى الشرع مفهوما واضحا وجليا عن علاقة الحاكم بالمحكوم أو الراعي بالرعية على حد تعبير ابن تيمية من منظور شرعي وهو تبني الوسطية والإعتدال بين طرفي نقيض هما المفهوم الثيوقراطي أي الحكم الالهي الذي عرفته أوروبا خلال عصورها الوسطى moyen -âgeux والذي عانت منه الأمرين، حيث حرَّموا نقد أو انتقاد الحاكم أو الملك واعتبروه تعدياً على مقام الألوهية لأن الحاكم إنما يحكم بأمر الله تعالى وبين مفهوم الافراط في علاقة الحاكم بالمحكوم وهو مفهوم الخوارج الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وقتلوه ثم علياً رضي الله عنه وقتلوه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟
ففي معايير السياسة الشرعية لا يرفع الحاكم فوق بشريته ولا تمتهن كرامته ولا يشهر به البتة كما لا يعفى من مسؤولياته، وما يتفرع عن الولاية العامة من ولايات خاصة كبيرة كانت أو صغيرة تتعلق به.
وقد جاءت طرق النقد البناء الإيجابي، الإصلاحي و التوجيهى بأساليب متنوعة تحت التقيد آداب واخلاقيات يجب التمسك بها ولا يجوز الخروج عنها، فالتاريخ الاسلامي الطويل الممتد مليء بالروايات التي فيها انتقاد الولاة والمراجعات والمساجلات بين نواب الوالي والرعية ولا غضاضة في ذلك، وجاء في فضائل امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال "لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت ان الله عز وجل سائلني عنها". ( يتبع )
