عقدة المقارنة / ‏القصطلاني سيدي محمد ‏

من الأشياء التي تشغل تفكيرنا بشكل مستمر المقارنة، و رغم أننا نحتاجها في الكثير من جزيئات حياتنا المعرفية و الاجتماعية و المعيشية، إلا أنها قد تشكل عقدة سلبية، تبني حاجزا منيعا، يحول بيننا دون الاطمئنان و السعادة.

إن الاختلاف سنة بشرية تتجذر في بنيتنا، سواء كان ذلك الاختلاف ماديا أو معنويا، و خلال نظرتنا لذلك الاختلاف نمر بعقدة المقارنة، التي تجعلنا نقرأ التفاضل بيننا و الآخر وسيلة للتنافر، بدل أن نفهم بأنه مجرد تجليا من تجليات الحياة.

يحاول الإنسان و هو يركب زورق الطموح سائرا في بحر الأمل، تلطمه أمواج الحياة، يحاول أن يصنع لنفسه ميزة خاصة تجعله يتفوق على الآخر، أو لِنَقُلْ" مميزا عن الآخر"، و تلك طبيعة بشرية فطرية تحتاج أن ننميها بأسلوب راقي، بعيدا عن الأنانية و الكراهية التي قد تظهر بسبب عقدة المقارنة.
لقد  نزلت  اللعنة على إبليس بسبب مقارنته العرجاء اتجاه آدم عليه السلام، قال تعالى (قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، و كان أول ما وسوس به إبليس، بين إبني آدم قابيل و هابيل هو المقارنة، قال تعالى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
ما يزال المرء في سعادة، مالم تعكر صفوه عقدة المقارنة، فيتساءل حين يرى من هو أكثر منه مالا أو أحسن منه حالا، قائلا: لماذا لا أكون مثله و أفضل، "يا لتعاستي!"، و بدل أن يستخلص من تلك المقارنة تحفيزا للعمل و يجد في السعي، يقوم بمقت حاله، و يحسد الآخر على نعمه، حتى و لو  كانت تلك النعمة من قبيل الجمال و الصحة و القوة، فيكره نفسه قبل أن يكره الآخرين، و يتجاوز ما لديه من نعم، و ينسى من هم دونه.

فإذا كنت ستبغض فلانا لمجرد أنه ناجح أكثر منك، أو رزقه الله الولد و لم يرزقك، فأنت بتلك الصفة تعاني من عقدة المقارنة، و تتجاهل أن كل ما بك و بغيرك هو قدر من عند الله، عليك أن تؤمن به راضيا غير ساخط.

إن أول مقارنة ينبغي أن يجريها الشخص هي مقارنة عقله و قلبه مع حاله، هل هو راض بما قسم الله له، و لا يعني ذلك الرضى أن لا يسعى للتغيير للأحسن، لكنه بداية تصالح مع الذات، ينطلق منها إلى الأفضل، مؤمنا أن كل ما يمر به مرجعه إلى الله، فإذا  أراد زيادة فضل سأل الله و سعى لذلك، دون أن يحسد الآخرين على ما آتاهم الله، و إذا أراد صرف سوء، سأل الله و عمل من أجل ذلك، دون أن يمقت حاله و يتمنى للآخرين سوءا.

إن عقدة المقارنة، تجعل القلب يفتقد دائما ما ليس عنده من الخير، و يتجاوز و ينسى كل ما يملك من خير، ثم يبدأ في جلد الذات على أنغام بغض الآخر، فيدخل في متاهة الأنا و يلبس ثوب الأنانية، و يحمل سيف الحسد ليضرب به كل من هو أحسن منه.

فلتنتبه أيها المقارن، و لا تحاول أن تحشر نفسك في مضيق المقارنة الرهيب، و أنظر إلى الغير كما تنظر إلى نفسك بإنصاف، فالحياة أوسع من أن تجعلها أسيرة لمقارنة عابرة، و تذكر دائما أن هنالك من هو دونك بكثير قبل أن تقارن نفسك مع من هو أحسن منك.

و إن كنت لا بد مقارنا، فأجعل مقارنتك تنطلق من ذاتك، و قارن بين أنت الأمس و أنت اليوم، ماذا عملت لتكون أفضل، و تذكر دائما أنك تحتاج لتصالح مع الذات لترقى بها.

أما الآخرين، فأعتبرهم مجرد قصة للاعتبار و الاستفادة، فأنت حين ترى نجاحات و إخفاقات شخصيات القصة التي تقرأ أو تشاهد، يتولد عندك شعور إيجابي يحفزك على العمل الجاد، و يجعلك تمتلك تجربة تفهم من خلالها الكثير، و تحس كأنك هو المسؤول عن إخراج تلك القصة، و صاحب حبكتها التي تجعلها أكثر جمالا بالنسبة لك.
و قبل أن تقوم بالمقارنة، تحتاج أن تتعلم كيف تنظر إلى الأشياء، من مصدرها العلوي، و تتأمل في مآلاتها، و كيف تختلف البداية عن النهاية.

فلن تستفيد من مقارنة شكلك بالآخر، إذا تملكتك عقدة المقارنة،  إلا تكبرا في حالة تفوقك أو تحسرا في حالة تفوق الآخر،  لكن حين تدرك أن الأمر لا يتعلق بك و لا بالآخر، و أن يدا علوية أبدعت الشكلين، و جعلتهما لشخصين لحكمة ما، حينها فقط تستسلم، و تترك المقارنة.

إن شحنة المقارنة رغم ميول الكثيرين لاستخدامها في الجانب السلبي، إلا أننا يمكن أن نصنع منها محفزا قويا للعمل و باعثا متميزا لحب الخير و نشره.

فأفضلية الآخر  في جوانب معينة، لا تعني أنك خارج ميدان المنافسة، و لا تحول بينك و بين ذاتك، و لا تمنعك من ابتسامة مشرقة، تتأمل فيها بديع صنع الخالق و بليغ حكمته.

و لن تبالغ في المقارنة جدا ، إذا أدركت أن السعادة لا ترتبط بتلك الفروقات الشكلية، بل هي بعد توفيق الله، قرار ذاتي يتعلق بك و يصدر منك مهما كان شكلك و واقعك.

(مقال لي ضمن القائمة القصيرة للدورة الثانية لاوسكار المبدعين العرب 2023)

13. فبراير 2024 - 15:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا