لقد سعت موريتانيا ، الدولة العربية الإفريقية منذ إستقلالها عن الإستعمار الفرنسي خلال ستينات القرن الماضي، أن تلعب دورًا أكبر من حجمها علي صعيد الديبلوماسية و أن تحجز لنفسها مكانة مرموقة في المنظمات القارية و في المحافل الدولية. فالبلاد التي ينظر إليها في الأوساط الخارجية بإعتبارها همزة وصل بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء و بوابة غربية للوطن العربي تتقاطعها ثقافتان ( عربية و إفريقية) شكلتا إلي وقت قريب مصدر قوة للبلاد و مكناها من أن تكون وسيطًا مقبولًا و فعالًا في تسوية العديد من الملفات و التحديات التي تواجه القارة الإفريقية.
و هذا ما تم تأكيده في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الراحل المختار بن داداه بمناسبة إنعقاد المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963م عندما قال :" بأن موقع موريتانيا الجغرافي يجعلها نقطة وصل طبيعية بين إفريقيا السوداء و إفريقيا البيضاء ، فهي من ناحية علي حد قوله مرتبطة بالدول العربية بروابط إثنية و إرث ثقافي ثمين و من ناحية أخري ترتبط بإفريقيا السوداء بروابط إثنية أخري متينة وتجمعهما العلاقات الجغرافية و الإقتصادية ، و هذا بالذات ما يجعل الشعب الموريتاني يفخر بتجسيد تناسق مختلف مكوناته الإفريقية في تنوعها و يجعله بالتالي نموذجًا " للوحدة التي ينشدها الجميع ".
لقد لعبت موريتانيا التي تولت الرئاسة التاسعة لمنظمة الوحدة الإفريقية بين يونيو 1971 و يونيو 1972م، تحت قيادة المرحوم المختار بن داداه ، جهودًا معتبرة حيث جاب خلال مأمورية رئاسته جميع قارات العالم في أكبر جولة خارجية له للدفاع عن إفريقيا و مصالح شعوبها و التعريف بالتحديات التي تواجهها في وقت لا زال معظم جنوبها أنذاك يخضع تحت نير الإستعمار.
وحقق الرئيس المختار نتائج إيجابية في مجال العمل الإفريقي المشترك و حضور الأفارقة بشكل قوي علي الساحة الدولية وتسوية الخلافات البينية، كما حصل علي دعم الأشقاء الأفارقة للقضية الفلسطينية و عدم أي إعتراف بالكيان الصهيوني المغتصب للأراضي الفلسطينية و أضطلع الراحل بدور مهم في الوساطة بين العديد من دول العالم.وهي مكاسب مهمة في رصيد الديبلوماسية الموريتانية التي حظيت وقتها بإحترام و تقدير كبيرين من طرف العديد من قادة الدول وشعوبها.
اليوم ، بعد مرور ستة عقود علي جيل التأسيس ، فلا يزال الإتحاد الإفريقي الذي تم تأسيسه سنة 2002م علي أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية ، بإعتباره منظمة قارية تهدف إلي تعميق وتعزيز التضامن الإفريقي وحل القضايا السياسية و الإقتصادية والأمنية في إطار إفريقي بحت، يواجه في الوقت الحاضر تحديات لا حصر لها .فالقارة السمراء تبدو مثقلة أكثر من أي وقت مضي بالإنقسامات السياسية و عدم الإستقرار في الكثير من بلدانها بعد إستفحال أزمة الحكم في كل من السودان وليبيا و تفشي ظاهرة الإنقلابات التي عصفت بأنظمة مدنية منتخبة ،و الإنعكاسات المحتملة لعدم الإستقرار في منطقة الساحل و ما تطرحه هذه الأخيرة من إشكالات أمنية نتيجة لإنتشار الجماعات الإرهابية المسلحة العابرة للحدود و عصابات الإتجار بالمخدرات مما ينذر بإحتمالية أن يؤثر هذا الوضع سلبًا علي دول الجوار شبه المستقرة.هذا بالإضافة إلي مشكل الهجرة ودوره في إفراغ القارة من السواعد القادرة علي تنميتها و ما يحمل في طياته من مخاطر سياسية و إقتصادية بالنسبة لدول العبور و اللجوء علي حد السواء، دون أن ننسي طبعًا قضايا التعليم و الصحة و التشغيل و التكوين المهني والتحديات البيئية التي تشكل إنشغالات حقيقية للرأي العام الإفريقي. ومن أجل حلحلة هذا الوضع الصعب ، تأتي مبادرة دول شمال إفريقيا بترشيح فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني لتولي الرئاسة الدورية للإتحاد الإفريقي وهو ما تم تتويجه اليوم السبت12فبراير2024م في الدورة السابعة والثلاثين للإتحاد المنعقدة بأديس أبابا و بإجماع جميع الدول الأعضاء.و نحن في الجمهورية الإسلامية الموريتانية إذ نعتز بهذا التتويج الذي نصفه بالتاريخي في هذا الظرف الدقيق و الحساس ، فإننا نؤكد أنه يشكل مرة أخري تزكية للرجل و إعترافا بأهليته و حنكته السياسية و كياسته بإعتباره الشخص الأنسب لإخراج إفريقيا من محنتها. لذا فإن تهنئته علي هذا الإنجاز تعتبر واجبا وطنيا يجب علي جميع أطياف شعبنا و نخبنا السياسية و الفكرية و الدينية و هيئات المجتمع المدني الإشادة بها و إعطاء الحدث الزخم الذي يستحقه.
و قل أعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون .
صدق الله العظيم.