يعاني سكان العاصمة انواكشوط من الإبحار القسري مع أول قطرة مطر إلى ما بعد الخريف بشهور، وذلك راجع إلى ضعف شبكة الصرف الصحي التي لا تغطي 1 في المائة من العاصمة، جزء من شارع جمال عبد الناصر، والرئاسة و أحياء عاصمة السبعينات،أما الباقي فلكل منزل حفرته الخاصة (افونص) غير المربوطة بالشبكة وعلى حساب الشارع غالبا.
أهل سينكييم و سيزييم بلغني ان بعضهم يستغل فترة الأمطار لتنظيف حفرهم الخاصة (افوصات) إذ يعمدون إلى انشاء ثقوب فيها لتختلط مياهها بمياه المستنقعات، وبهذا يوفرون تكاليف استجلاب صهاريج الصرف الصحي الخاصة ويضعون الدولة أمام مسؤوليتها بطريقتهم الخاصة، ومن اللافت أنه في هذه المناطق تكون البيوت في غاية النظافة من الداخل والشوارع حالها يرثى له !!! ومن المألوف أن يشاهد المار من أغلب أحياء العاصمة إحداهن أو احدهم يفرغ مخلفات تنظيف الأسماك والثياب والشاي على الطريق العام. مشكلة انواكشوط الصحية تتمثل في قرب مستوى اغلب حاراته من مستوى سطح البحر إن لم تنخفض عنه أحيانا 50 سم، نظام صرف صحي طبيعي يعتمد على شبكة صرف متجهة نحو البحر بانحدار معين وكلما زاد هذا الانحدار كلما زادت كفاءة الشبكة وقلت الحاجة إلى المضخات الميكانيكية التقليدية المكلفة.
المعطيات الطبيعية لمستوى أرضية انواكشوط لا تسمح بصرف صحي معقول من ناحية التكلفة، فحتى قرار اختيار انواكشوط حينها كعاصمة لموريتانا كان استعجاليا -مع احترامي لأب الأمة الموريتانية ومؤسس العاصمة رحمه الله وجازاه عنا خيرا وتفهمي للظروف السياسية حينئذ - فالفرنسيون حينها لم يكونوا موافقين ولا متحمسين للفكرة من الناحية الفنية ولا السياسية حسب مذكرات الرئيس الراحل وكانت المعركة في ذلك الوقت بالنسبة للرئيس معركة وجود، وهذا يشكر له.
نظام الصرف الصحي في نواكشوط- على ضعفه- مكلف جدا فهو يعتمد على الضخ الميكانيكي للمياه مما يكلف اموالا طائلة في الطاقة التي تحرك تلك المضخات، لم تتم توسعة الشبكة حسب علمي منذ إنشاءها عدا خزانات (افوصات) تم إنشاؤها على بعض الشوارع القديمة الجديدة- تماما كحفر المنازل المعزولة- يتم تفريغها بالصهاريج بعد كل زخة مطر.
حسب الخرائط التي أعدها الفرنسيون في السبعينات ( اطلعت على أحداها لدى مديرية الخرائط) فإن المستشفى الوطني الموجود على مرتفع نسبي هو آخر نقطة في العاصمة نحو الغرب مسموح بالبناء فيها آنذاك، و ما بين المستشفى الوطني والمحيط يعتبر منطقة مغمورة كما تعتبر هذه الخرائط أغلب سينكييم وسيزيم ودار النعيم مناطق مغمورة، الموضوع لا علاقة له بالقرب من البحر بل بمستوى السطح بالنسبة لسطح البحر.
ابان تشييد سوكوجيم بلاج المعروف ب سيتي معاوية تقدم أصحاب المشروع إلى المختبر الوطني للأشعال العمومية- كما حدثني مدير سابق للمختبر- تقدموا بطلب دراسة جيوتقنية لأرضية المشروع وكان رأي المختبر أن يتم ردم الأرضية حتى 1.20 متر قبل الأشغال كشرط مسبق لموافقة المختبر على صلاحية الأرض للبناء وهو ما تم تجاوزه للأسف. واليوم لا يوجد مبنى غرب المستشفى الوطني بمأمن من تداعيات المياه والرطوبة والملوحة - وهنا أتحدى أيا كان أن يثبت العكس- فسكان تلك المنطقة المغمورة يرممون مساكنهم كل سنة – تكاليف الترميم قد تفوق تكاليف الإيجار- تماما كما ترمم الدولة حفر الطرق وتردم البرك كل سنة- حلول لحظية- تماما كمن يعالج مخلفات الحمى (العرض) دون أن يعالج سببها (المرض)..
سوكوجيم هجرها أهلها بفعل المستنقعات، ولكصر القديم غير سالك طيلة فترة الخريف وسيتم هجره قريبا هوالآخر.....
الشبكة الحالية للصرف الصحي تتحمل ما لا تطيق وهي نفسها تحملنا ما لا نطيق من علاج لمرضى الأمطار من ملاريا وبوروتو... ومن ردم للبرك وشراء للناموسيات وتصريف المياه الراكدة في الصهاريج و تعطيل شبكة الكهرباء وتعريض حياة المواطنين للخطر بسب الأسلاك العائمة في المياه الناقلة للتيار الكهربائي، وتصليح السيارات المتعطلة بفعل المياه وحفر الطريق المغمورة، وغسل الثياب والسيارات وشراء المطهرات والمبيدات الحشرية في كل منزل.
ضف إلى ذلك إلى ان مساعي الدولة لتوسعة شبكة الطرق في المدينة وما يكلف ذلك خزينة الدولة من أموال طائلة، يتكفل ركود الماء عليها ليلة واحدة بنسفها، فالماء عدو العمارة والإسفلت يذيبها ويفككها كما يذيب الحمض القماش، وما ينجر عن ذلك من ترميم متكرر لهذه الطرق المتحفرة بفعل الماء ونقص في عمرها الأفترضي القصير أصلا.
لكن بالمقابل في هذه الفترة ينتعش الإسكافي والميكانيكي والكهربائي و الدهان، وتمتلئ المستشفيات بالمرضى ...
في كل خريف تشكل الدولة خلية أزمة ويقوم وفد وزاري رفيع بالسباحة في أحواضهم الرباعية الفارهة في بعض الأحياء المغمورة في انواكشوط وتقرر خلية الأزمة تلك استقدام صهاريج لرشف ما بقي بعد الشمس من المياه وردم بعض البرك العملاقة وتوزيع الناموسيات.... إلى غير ذلك من الحلول الترقيعية القريبة العاجلة ذات الطابع الإستعجالي.
ارجوا من خلية الأزمة هذه المرة ترك الأولاد يتمتعون باللعب والسباحة في البرك والرجوع إلى مكاتبهم واستدعاء الفنيين والخبراء - عن طريق مناقصة دولية مفتوحة- وتكليفهم بإعداد دراسات فنية قد تحمل حلا جذريا على المديين المتوسط والطويل، فأنا متأكد أن تكاليف الحلول الترقيعية لموسم واحد تضاعف عدة مرات تكاليف استدعاء مكاتب استشارية وطنية أو دولية لها خبرة في الموضوع.
حينها، سيبقى تحويل العاصمة انواكشوط إلى منطقة شاطئية أكثر ارتفاعا من بين الحلول الواردة المكلفة لكنها قد تكون الأكثر نجاعة.
محمد عبد الرحمن ميلود
*مهندس مدني رئيس، اطار في وزارة التجهيز والنقل