روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" (صحيح مسلم حديث رقم 1984), وفي لفظ آخر :" فكأنما صام الدهر كله " وفي لفظ " السنة" وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم
من حديث ثوبان و كذلك جاء من حديث أبي هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة(سبل السلام للصنعاني 2\ 167وصحيح الترغيب والترهيب للألباني 1\243). .
و هذا الحديث أصل في مشروعية واستحباب صيام ستة أيام من شوال. وبه قال جمهور أهل العلم من الصحابة والأئمة من بعدهم . وقد روي عن مالك كراهة صومها خوفا أن تتلبس برمضان ويحسبها الجهلة منه . واعتذر عنه أصحابه من وجهين :
1- أنه لم يبلغه هذا الحديث أو لم يثبت عنده مع كونه صحيحا في نفس الأمر, قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار : " لم يبلغ مالكا حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة وكان - رحمه الله - متحفظا كثير الاحتياط للدين ,وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل ... فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله لأن الصوم جنة وفضله معلوم وهو عمل بر وخير... وما أظن مالكا جهل الحديث والله أعلم لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت وقد قيل إنه روى عنه مالك ولولا علمه به ما أنكره وأظن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه ببعض ما رواه وقد يمكن أن يكون جهل الحديث ولو علمه لقال به والله أعلم (الاستذكار 3\380).
2- أنه إنما كره صومها عقب يوم الفطر مباشرة من غير فصل لئلا يحسبها الناس من رمضان, فإذا صامها المسلم استنانا من غير إظهار ولا إرداف لها برمضان لم تكره وقد جاء هذا التأويل عن بعض أصحاب مالك وتلامذته الذين هم أدرى بعلمه ومذهبه قال المواق في شرحه على خليل :" قال مطَرِّفٌ : إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ لِذِي الْجَهْلِ لَا مَنْ رَغِبَ فِي صِيَامِهَا لِمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ " .
وعلى الجملة فقد جرى العمل عند علماء المالكية بصيام هذه الأيام ولم يقلدوا إمامهم في كراهة صيامها لاسيما إذا وقع الاحتياط بتأخيرها عن يوم الفطر. فلا خلاف حينئذ في صيامها وقد صرح بذلك مطرف واللخمي والمازري وابن العربي في العارضة وابن عبد السلام التونسي الذي رأى أن هذه المسألة من المسائل التي يلزم المقلد العدول فيها عن مذهب إمامه عملا بالدليل الخالي من المعارض فقال: " عندي أن هذا النوع من الأحاديث التي صرح الإمام أنه لم يبلغه يلزم مقلده العمل به إذا ثبت عنده من وجه معتبر وليس عذر في ترك العمل به " نقله الشيخ محمد حبيب الله بن ما يأبى في شرح زاد المسلم.
ولهذا اقتصر ابن جزي المالكي في على استحباب صيام هذه الأيام ولم يعرج على القول بكراهتها إطلاقا (القوانين الفقهية:87)وكذلك فعل الفقيه محمد يحيى الولاتي في كتابه نور الحق والصبيح. وهنا مسائل تتعلق بهذا الموضوع أحببت بيناها تعميما للفائدة:
1- أنه يجوز صوم هذه الأيام مفرقة ولا يشترط تتابعها ولا اتصالها برمضان بل الأكمل فصلها عنه بأيام بحيث تكون من وسط الشهر أو آخره كما بينه ابن العربي وغيره, وهذا الأمر واضح ومفهوم من ألفاظ الحديث حيث قال صلى الله عليه وسلم :" ثم أتبعه ستا من شوال " هذا لفظ أكثر الروايات ومعروف أن ثم تقتضي الترتيب على مهل وتراخ ولا تقتضي تعقيبا, وكذلك يفيده أيضا تنكير لفظ " ستا من شوال " فهو مطلق - على اصطلاح الأصوليين - صادق بصيامها مفرقة أو متتابعة من أول الشهر أو آخره لأن حكم العدد في مثل هذا الإطلاق فهو يدل على تعيين أفراد المعدود من غير تقييد بتاتبع ولا غيره ولهذا ورد التصريح بقيد التتابع في قوله تعلى: {,فصيام شهرين متتابعين} لأنه خارج عن مدلول اللفظ. فالسنة حاصلة بأي ذلك فعل المسلم إن شاء صامها متتابعة أو مفرقة فليفعل ما يلائمه من ذلك ... (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر), وقد اشتراط التتابع في بعض الأحاديث لكنه ضعيف منكر كما بينه الشيخ الألباني (ضعيف الترغيب 1\152) فلا يلتفت إليه.
2- ينبغي لمن عليه قضاء شيء من رمضان أن يبدأ بالقضاء امتثالا للحديث القدسي : " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه " ثم إذا كمل القضاء صام هذه الأيام وهذا أيضا مفهوم من الحديث حيث إنه قال " من صام رمضان ثم أتبعه"... فبين أن هذا الصوم المندوب إنما يحصل فضله وينال أجره بعد الوفاء بالفرض ليكون مكملا له. .
3- إذا صام المسلم هذه الأيام بنية القضاء فهل يحصل له بذلك هذا الأجر الموعود في الحديث والجواب : لا طبعا فهذا الأجر معلق بالفراغ من الفرض كما قال صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال ", فإذا صام الشخص هذه الأيام بنية القضاء لم يصدق عليه أنه وفى بصيام رمضان وزاد عليه ستا من شوال بل وفى بصيام رمضان فقط وهذا المعنى واضح من لفظ الحديث وقد جاء مفسرا في حديث ثوبان ولفظه : " من صام رمضان فشهره بعشره ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك صيام السنة" وزاد في رواية : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " ولفظ الطحاوي : " جعل الله الحسنة بعشرة فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة". أخرجه ابن ماجه ( 1715 ) وابن حبان ( 928 ) وأحمد ( 5 / 280 ) والطحاوي في ( المشكل ) ( 2 / 100 ) ( إرواء الغليل للألباني)4|107), فهذا الحديث صريح في أن وجه هذا الفضل العظيم المشبه بصوم الدهر أن الحسنة بعشر أمثالها ورمضان بـ 10 أشهر فإذا صام المسلم شهر رمضان وأتبعه بستة أيام من شوال فهي أيضا بعشر أمثالها تساوي 2 شهر المجموع 12شهرا’ ولا يخفى أن هذا لا يحصل بصيامها قضاء فهو لا يساوي إلا 10 أشهر فليس كصيام الدهر المقصود في الحديث, وما أفتى به بعض أفاضل علمائنا المعاصرين من حصول هذا الأجر بصيام القضاء وتخريج ذلك على قاعدة " اندراج نية المندوب في الواجب " فهو تخريج ضعيف مصادم للنص فلا محل له ولا يلتفت إليه لمنافاته للمعنى المقصود من الحديث النبوي الشريف مع أن التخريج على القواعد الفقهية مسلك ضعيف ولا يجوز إلا استئناسا وتروحا عند عدم النص من الفقهاء فكيف إذا ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفقنا الله وجميع المسلمين لما فيه خير الدنيا والآخرة.