تأجيل الانتخابات شهرا عن موعدها الذي كان مقررا كشف حقيقتين لمن كان غير قادر على إدراكهما.. - الأولى هي أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز ا رجل عصي على الابتزاز من القوى غير الجادة في سعيها للمشاركة المسئولة في إدارة الشأن العام الوطني والتعاطي معه إيجابيا؛
حيث أصر على عدم تأجيل ذلك الاستحقاق أكثر من شهر واحد؛ باعتباره فترة كافية لأي طرف سياسي كي يستعد للمشاركة إذا كانت تلك هي رغبته الحقيقية؛ وليس المماطلة، والتسويف، والتهرب من تحمل المسئوليات الوطنية والأخلاقية تحت مختلف الذرائع.
- أما الحقيقة الثانية؛ فهي أن رئيس الجمهورية لا تخيفه مشاركة أي قوة سياسية في هذه الانتخابات؛ بل هو راغب في مشاركة جميع مكونات الطيف السياسي بموالاته ومعارضته؛ لذلك لم يتردد في الاستجابة لمطالب القوى التي أبانت عن رغبة جادة في المشاركة، وقدمت مطالب (مطالب وليست شروطا) موضوعية لتمكينها من تلك المشاركة..
وهكذا تم التوصل لذلكم التفاهم الذي قضى بإجراء الانتخابات في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر القادم، وضمن مشاركة كل أحزاب الموالاة، وجزئ كبير من أحزاب المعارضة (قطب المعاهدة من أجل التناوب) في انتظار التحاق قطب "التحالف الوطني" بركب المشاركين في المنافسة الديموقراطية؛ على ما نرجح.. بل نعتقد. فأي موقف ستتخذه منسقية المعارضة الديموقراطية؟
لقد تحدثنا في مقال سابق عن موريتانيا التي "تجدد أزمتها عبر انتخابات غير توافقية"، ولم تكن الأزمة التي نقصدها غير أزمة معارضتنا التي لا تقبل بالأساليب الديموقراطية وسيلة للتعاطي مع الشأن السياسي؛ فضلا عن رفضها الإقرار بحكم صناديق الاقتراع، وعدم احترامها للإرادة الشعبية المعبر عنها عبر تلك الصناديق..
ولأن الديموقراطية لا تستقيم دون وجود قطبين سياسيين أحدهما حاكم والآخر معارض؛ فقد كنا في "أزمة نظام ديموقراطي" بفعل افتقارنا ل"معارضة سياسية" بالمعنى "السوي" والديموقراطي والحضاري للكلمة؛ وليس ب"المعنى القانوني" لها.
وقد بدت بوادر تجاوز هذه الأزمة مع دخول أحزاب وازنة من المعارضة تتقدمها ما صارت تعرف بأحزاب "المعاهدة" في حوار مع "الأغلبية المندمجة" أسفر عن نتائج غاية في الأهمية لمنظومتنا الديموقراطية؛ حيث كشف ذلك الحوار عن وجود أحزاب معارضة تعرف كيف تتحاور - من أجل المصلحة العامة – مع نظام دون أن تتخلى عن معارضته؛ لأنه نظام يعرف أيضا كيف يتحاور - من أجل المصلحة العامة – مع قوى تعارضه دون أن يطلب منها التخلي عن معارضته.
وفي المقابل؛ ظلت أحزاب أخرى (منسقية المعارضة) عاجزة عن تقبل حقيقة وجود رئيس منتخب على رأس نظام ديموقراطي فريد في المنطقة؛ وظلت تطالب برحيل، وتهدد بترحيل ذلك النظام رغما عن كل الأعراف الديموقراطية، ورغما عن إرادة الأغلبية الساحقة التي انتخبته ولم تزدها الأيام إلا تعلقا به واقتناعا ببرامجه!!
هكذا تجاوز عدد من أحزاب المعارضة الأزمة التي اختلقتها المنسقية لنفسها دون أن تمكنها من ترحيل رئيس الجمهورية المنتخب، ولا من إرباكه، ولا من تعطيل السير المضطرد للمؤسسات العامة التي يشرف عليها.. وها هي أخيرا تعجز عن منعه من إجراء الانتخابات رغم كل المماطلة والتسويف؛ وحتى عن جعل هذا الاستحقاق "انتخابات غير توافقية"..
نعم، لن يكون هناك معنى للحديث عن "انتخابات غير توافقية" في المستقبل؛ لأن التوافق لا يكون إلا بين راغبين فيه، وقد تحقق هذا التوافق بين من سعوا إليه، أما الذين يعتقدون أن أي توافق مع النظام سيكون في غير صالحهم فلا أحد سيهتم بالتوافق معهم، وأقصى ما يمكن أن يقال عن الانتخابات القادمة إذا رفضت المنسقية المشاركة فيها هو أنها "انتخابات توافقية قاطعتها المنسقية في خطأ استراتيجي جديد يضاف إلى أخطائها المتواترة منذ تنكرها لنتائج الانتخابات التوافقية عام 2009، وانتهاء برفعها لذلك المطلب القاتل (مطلب الرحيل المستحيل)..
فهل تزيد المنسقية على نفسها عبء أخطائها المدمرة، أم تغتنم آخر الفرص وتستجيب لجهود الرئيس مسعود في الوقت القصير المتاح لها كي تشارك في هذه الانتخابات وتخرج من العزلة التي فرضتها على نفسها عساها تستعيد شيئا من عافيتها وتسترجع بعض ما أضاعته من شعبيتها ومصداقيتها؟
نتوقع خطابين متجاوزين من العارضة ردا على هذا التأجيل:
- أما الخطاب الأول؛ فهو أن رئيس الجمهورية "تجاهل مبادرة مسعود ورفض التجاوب معها"، وهو قول غير مسئول، وغير صحيح: غير مسئول لأن المعني بتقييم ردود كل الأطراف على مبادرة مسعود؛ هو مسعود ولد بلخير شخصيا وليس غيره؛ وغير صحيح لأن هذا الأخير أثنى على تجاوب الرئيس مع مبادرته وقال إنه لبى كل مطالبه باستثناء مطلب "الحكومة الموسعة" التي قال إنه بالإمكان إيجاد بدائل عنها، وهو كلام صحيح وعقلاني أيضا؛ حيث نعتقد أن ولد بلخير عندما صاغ مبادرته لتقديمها لمختلف الأطراف كان يعرف أنه من الصعب (إن لم يكن مستحيلا) أن توافق جميع الأطراف على كل ما ستتضمنه تلك المبادرة؛ فقام بصياغتها على مبدأ دبلوماسي معروف يقول" "اطلب المستحيل لتجد الممكن"؛ وقد حصل ولد بلخير على موافقة رئيس الجمهورية على "الممكن في مبادرته"، وعجز عن تحقيق المستحيل (وهو الحكومة الائتلافية التي لا تجد في واقع البلد ما يبررها)، في حين لم توافق منسقية المعارضة لا على المستحيل، ولا على الممكن في تلك المبادرة، وقد آن لها أن تقدم نصيبها من التنازلات إن كانت تجد نفسها معنية بالمشاركة في أي مسعى يخدم التوافق الوطني على القضايا الجوهرية لهذا البلد.
- أما الخطاب الثاني؛ فيقول "إن النظام يسعى لإجراء انتخابات أحسن الإعداد لها مستغلا وسائل الدولة، وهو يريد فرضها علينا قبل أن نستعد لها"! وهو كلام غير صحيح في جوهره، وغريب في دلالاته..
غير صحيح لأن المنسقية تقصد باستعداد النظام لهذه الانتخابات " سلسة الجولات التفقدية التي قام بها الوزراء لمختلف الولايات مؤخرا"، حيث اتهمت المنسقية النظام حينها بتدشين حملة انتخابية مبكرة بتلك الجولات الوزارية التي اختتمت بزيارة الرئيس لولاية الحوض الشرقي... ونحن نعرف أن جولات الوزراء للاطلاع على أحوال المواطنين ومتابعة مستوى تقدم المشاريع التي تجزها الدولة أصبح تقليدا موسميا يتم كل سنة وفي نفس الفترة منذ تولي محمد ولد عبد العزيز رئاسة الجمهورية، وكذلك الأمر بالنسبة للقاء الشعب، سواء كانت هنالك انتخابات أم لم تكن.
ثم هو كلام غريب؛ لأن المعارضة لا تستطيع أن تخوض "حملة انتخابية" أفضل من حملاتها المستمرة للمطالبة برحيل النظام؛ وهي حملات لم تتوقف قط إلا مع تراجع شعبيتها وملل أنصارها من دعواتها التي لم تعد تقنع أحدا؛ فإن كانت المنسقية تريد تأجيل الانتخابات على أفق مفتوح حتى تتمكن هي من إيجاد خطاب بديل لخطاب الرحيل يقنع أنصارها ويساعدها في استعادة من خسرته من أولئك الأنصار؛ فإنها تخطئ خطأ آخر لا يقل جسامة عن أخطائها السابقة؛ إذ إنها بذلك تتهرب من دفع ثمن أخطائها ومحاولة إجبار الدولة والمجتمع على دفع ذلك الثمن؛ وهو ما لن يكون! إنه ليس أمام أحزاب المنسقية سوى أمرين أحلاهما أكثر مرارة من صحابه:
- أما الخيار المر؛ فهو المشاركة في الانتخابات المقررة؛ حيث ستكسب من هذه المشاركة كسبا غاية في الأهمية؛ يتمثل في خروجها من الورطة والعزلة التي فرضتها على نفسها، وسيجعلها ذلك مهيأة للعودة بشكل تدريجي إلى الوضع الطبيعي المناسب لأي معارضة سياسية مدنية وديموقراطية؛ كما سيساعدها على تجاوز موضع "المليشيا السياسية الشارعية"... حتى لا نقول "الغوغائية.
أما التبعات السلبية لهذا الخيار؛ فهي تبعات مرة لكنها مؤقتة، وستتمثل في ضعف النتائج التي قد تكسبها أحزاب المنسقية في هذا الاستحقاق بسبب التراجع الملحوظ لشعبيتها التي ظلت تبتعد عنها منذ اختارت انتهاج طريق "المشاغبة غير المجدية في الشوارع والساحات العمومية".
- أما الخيار الأكثر مرارة؛ فهو أن تواصل المنسقية "سياسية دفن الرؤوس في الرمال"، وتصر على مقاطعة الانتخابات؛ وهو ما سيشكل خسارة كبرى لأحزابها؛ وإن كان سيقود - دون إرادتها- إلى تحقيق مكسب وطني كبير متمثل في "تجديد الطبقة السياسية القائدة على مستوى تلك الأحزاب" التي لا شك أن قواعدها الشبابية ستجد نفسها غير قادرة على مواصلة السير خلف قيادات لا تعرف إلا كيف ترسم لأتباعها أهدافا مستحيلة، وتسير بهم على غير هدى في دروب فرعية وعابثة!! فلأي الخيارين سيميل قادة المنسقية؟
حسب التسريبات المتاحة فإن صوت العقل والتبصر ما زال محصورا في دائرة جزبي "تواصل" و"اتحاد قوى التقدم" اللذين لا يخفيان رغبتهما في عدم تضييع هذه الفرصة؛ رغم ضغوط باقي الأحزاب لثنيهما عن المشاركة؛ فهل يفلح الحزبان في محاولة إخراج رفاقهم من "محبس المنسقية المظلم"، أم أنهما سيخضعان لسياسة الابتزاز الطاغية على خطاب منسقية كانا بمثابة عنصرين فاعلين في إنتاج خطابها المبتز لكل مخالف والواصم له بكل صفات الخيانة والردة ومعاداة "ثورة الربيع الموريتاني" الذي ما زال ينتظر غيثا لا ينتظر؟!!...
نحن نتمنى للجميع أن يهديه الله سبل الحق والحكمة والسلام.. لكنه ليس لنا سوى أن ننتظر..