توقع الكثيرون أن الربيع العربي لن يترك وراءه رئيسا بل سيطال حتى الملوك والأمراء، وأنهم سيتساقطون بسرعة كأحجار الدومينو، لكن الفترة الماضية أوضحت أن لكل بلد خصوصياته وأن تأثيرات هذا الحدث الهائل ستتفاوت في شكلها وفي توقيت حدوثها.
لم تكن الثورات العربية في هذه الحالة بدعا من موجات التحول التي شهدها العالم في القرن الماضي، والتي كانت جذور الموجة الأولى منها تمتد للثورتين الأمريكية والفرنسية، وكان آخرها الموجة الرابعة التي أعقبت سقوط جدار برلين، والتي نجحت في تحويل دول عديدة من أوربا الشرقية إلى الديمقراطية من خلال ما عرف بالثورات الملونة أو الثورات الانتخابية، بينما فشلت نفس المحاولات في دول أخرى من نفس المنطقة.
لم تنجح محاولتان لاستلهام الربيع العربي في إسقاط النظام الموريتاني، إلا أن محاولة شباب 25 فبراير كرست ثقافة الاحتجاج ودفعت النظام إلى تقديم تنازلات خلال حواره مع بعض الأحزاب، ونجحت محاولة منسقية المعارضة في فضح فساد النظام وكشف زيف شعاراته وتحريك قطاع عريض من الطبقة المتوسطة ضده.
لقد قامت الثورات العربية بسبب الفقر والبطالة والفساد، لكنها قامت أيضا بسبب الانسداد السياسي وكبت الحريات والتعذيب، وعند النظر للحالة الموريتانية نجد أن هناك مستوى من الحرية لم يكن موجودا في تلك الدول، وأن هناك انفتاحا "ديمقراطيا"، وإن كان تكتيكيا، إلا أنه شكل متنفسا للكثيرين وأعطى الفرصة لوجود أحزاب جادة تمارس المعارضة الدستورية وتعمل من داخل النظام، ومكن من وجود صحافة حرة تمتص الاحتقان.
الانفتاح "الديمقراطي" الحالي في موريتانيا ليس منة من هذا النظام كما يدعي بعض أنصاره ولا من الأنظمة السابقة، بل هو نتاج عوامل داخلية وخارجية، وقد كانت البداية من خلال تنفيذ ولد الطايع لمطالبة ميتران للأفارقة في خطاب لابول بالتوجه نحو الدمقرطة وربطه للمساعدة بذلك، كما كانت نضالات القوى المعارضة في المرحلة التالية عاملا أساسيا في الخطوات التي قطعت نحو الانفتاح السياسي وإعطاء مزيد من الحريات.
اعتمد ولد الطايع شكلا جديدا لنظام الحكم فبدل التحول من الحكم العسكري نحو الديمقراطية، اختار نظاما هجينا تجري فيه انتخابات لكنها شكلية وتجميلية، وهو ما يعرف بالنظام التسلطي التنافسي (Autoritaire compétitif)، إذ تهدف الانتخابات لتشريع استمرار الرئيس في الحكم بدل أن تكون وسيلة للتناوب السلمي على السلطة.
مع انعدام وسائل التبادل السلمي واستمرار ضغط قوى المعارضة وحدوث محاولات انقلاب عسكرية، قامت أطراف أخرى من النظام بالإطاحة برأسه وتحقيق بعض مطالب قوى التغيير التي كان من أهمها إجراء انتخابات حرة ونزيهة. أجريت انتخابات كانت أفضل من سابقاتها لكنها لم تكن حرة بالشكل الكافي، فنقلت البلد إلى نظام شبه ديمقراطي سرعان ما تم الانقلاب عليه، لنعود بعد سنة من محاولة إفشال الانقلاب، إلى نظام التسلطية التنافسية.
لقد شرح ولد عبد العزيز بوضوح في لقاء النعمة بعض ملامح التسلطية التنافسية، حيث بين أنه خيار تكتيكي وليس خيارا نابعا عن الإيمان بقيم ومبادئ الديمقراطية. فقد قال أن الخطوات التي قطع مؤخرا في مجال حرية الصحافة، كانت عكس رغبة بعض محيطه، وأنها جاءت بسبب وعيه أن التضييق على الصحافة سيجعلها تجد متنفسا آخر، وأن الأفضل له أن يكون "أمامها لا خلفها لكيلا تجرفه" كما قال. فهو إذا ليس مؤمنا بأهمية حرية الصحافة، بل يعتقد أنه لم يعد من الممكن، عمليا، إسكاتها كما أنه يخاف عواقب ذلك.
إن النظم التسلطية التنافسية تختلف عن التسلطية التقليدية في أنها لا تستطيع، لأسباب داخلية و/أو خارجية، أن تصادر الحريات وأن تتخلص من المعارضة، لكنهما تتفقان في عدم إتاحة فرصة للتبادل السلمي على السلطة الذي يعتبر من أهم مقاصد الديمقراطية. وتعتمد في ذلك على استخدام وسائل الدولة في الصراع السياسي وزيادة الإنفاق على قوى الأمن والجيش وتدجين القضاء وأجهزة الإعلام الرسمية.
النظام الموريتاني إذا لم يكن نظاما تسلطيا تقليديا كالأنظمة العربية التي أسقطها الربيع العربي، بل هو نظام تسلطي تنافسي يشبه أنظمة أوربا الشرقية التي أسقطتها الثورات الملونة.
القاسم المشترك بين الثورات الملونة أنها أتت مباشرة بعد انتخابات مشكوك في نزاهتها وهو ما جعل البعض يسميها بالثورات الانتخابية. وبالرغم من أن شبهة الدعم الخارجي الأمريكي قائمة، فقد نجحت هذه الثورات من خلال نفس الأساليب، كالمشاركة في الانتخابات بشكل موحد ورفض الاعتراف بنتائجها بسسب التزوير، والدعوة للتظاهرات والاعتصامات الرافضة وغير المرخصة مع قدر معقول من التضحية والصمود، ووجود حركة شبابية طلابية قوية داعمة، واستخدام لون موحد وأساليب نضالية متنوعة.
كتبت في مقال سابق أن منسقية المعارضة تنتهج أسلوب المعارضة الدستورية وأن مسيراتها المرخصة التي نظمت سنة 2012 هزت النظام، لكنها لن تتمكن من إسقاطه من خلالها، فالمسار الدستوري لا يتيح من خيارات الحسم إلا خيارا واحدا وهو الانتخابات والانتخابات الحرة والنزيهة فقط.
التجارب أثبتت أن الانتخابات التي تؤدي للتبادل السلمي على السلطة لا تكون إلا في الأنظمة الديمقراطية، وأن أغلب الأنظمة الأخرى التي اعتمدت الانتخابات كآلية تجميلية للبقاء في السلطة لم تهزم من خلالها فقط، بل اعتمدت القوى المعارضة على وسائل إضافية كالحراك الجماهيري والمجتمع المدني القوي والقوى الدولية المساندة.
المعارضة الموريتانية ظلت دائما خالية من أي سلاح إضافي يضمن لها النتائج ويحميها من التزوير، فرفضت النزول للشارع بعد تزوير أول انتخابات سنة 1992 التي يقال أن ولد داده كان هو الفائز فيها، ورفضت ذلك سنة 2009 رغم تشكيكها في نزاهة الانتخابات ورغم استخدام وسائل الدولة بشكل فاضح. المحاولة الوحيدة كانت سنة 2003 من خلال ما قيل أن ولد هيدالة وبعض معاونيه كانت لهم خطة بديلة بعد الانتخابات وهو ما عرف وقتها بمخطط "گراب" والذي تم كشفه قبل تنفيذه.
فهل يمكن للشارع أن يكون هو سلاح المعارضة اليوم وملجئها في حال قررت المشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية المقبلة أو الرئاسية؟
المشاركة في مثل هذه الانتخابات لا ينبغي أن تتم بطريقة تزيد من شرعية النظام، ولا ينبغي أن يقوم بها القادر على المقاطعة المؤثرة أو أفعال المقاومة القوية، إلا إذا كان من أجل استخدام ظروف الانتخابات لشحن الجماهير وتعبئتها.
واهم من يخيل إليه أنه بالإمكان إقناع ولد عبد العزيز بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، لكن السؤال هو كيف يمكن الاستفادة من الانتخابات مشاركة أو مقاطعة؟ وماهو الخيار الأمثل في ظل موازين القوة الحالية؟
ما زلت أؤمن بقدرة الشارع على التغيير لكن كيف ومن ومتى وأين؟ تلك هي الأسئلة المهمة.
النظام الحالي أخذ نفس استراتيجيات الأنظمة التسلطية التنافسية، فهل سنستفيد نحن من الاستراتيجيات التي أسقطتها؟
مما لا شك فيه أن افتقاد قوى التغيير في موريتانيا، لاستراتيجة نابعة من دراسة الواقع ومن تجارب الشعوب المشابهة، سيجعلها لعبة في يد النظام، وستبقى عاجزة عن الحسم، تدور في دوامة مغلقة وهي تتصور أنها تتحرك لكنها حركة في نفس المكان.
هناك ضرورة لوجود استراتيجية تمكن من حشد كل الطاقات في اتجاه واحد، وتمكن من التعامل الأمثل مع مختلف أطراف الصراع من جيش وأمن وموالاة ومجتمع تقليدي ودول كبرى مؤثرة وحركات شبابية وحقوقية، كما تمكن كذلك من وضع رؤية للتعامل مع المحامين والنقابات العمالية والطلابية والمجتمع المدني والمؤسسة القضائية، ورؤية للإعلام ودوره، ولرجال الأعمال ودورهم، وللجاليات المهاجرة ودورها.
هناك حاجة ملحة لإيجاد إطار شبابي سياسي قوي يحرك المياه الراكدة في السياسة، وهناك حاجة لإطار مرحلي يختص بموضوع الانتخابات دراسة وتوجيها.
إما أن تستطيع النخبة السياسية والطبقة المتوسطة أن تحدث تغييرا هادئا وبتضحيات معقولة وهو ما يمكن تسميته بالثورة العاقلة، أو لننتظر الثورة العفوية المكلفة وغير مضمونة النتائج، والتي لن تأتينا إلا بغتة، وهي ثورة المهمشين وفي طليعتهم شريحة الحراطين الأكثر غبنا في موريتانيا.
* المقال يعبر عن رأيي فقط وأسعد بالتواصل مع كل الأفكار من خلال الإيميل : [email protected]