لا شك في أن أحزاب منسقية المعارضة تمر الآن بفترة حرجة جدا وذلك بعد أن أعلنت السلطة القائمة عن تحديد موعد جديد للانتخابات، وهو الموعد الذي تم تحديده بالتنسيق مع أحزاب المعاهدة، مما يعني وبلغة سياسية فصيحة بأن أحزاب المعاهدة ستشارك في تلك الانتخابات،
وهو ما يعني بلغة سياسية أكثر فصاحة بأن أحزاب منسقية المعارضة إن قاطعت فإنه لن يكون لمقاطعتها الأثر الكبير نظر لمشاركة بعض الأحزاب التي تحسب على المعارضة (المعاهدة)، وإن شاركت فإن مشاركتها ستمنح للنظام الذي كانت تُطالب برحيله شرعية جديدة كان بأمس الحاجة إليها.
ومن المؤسف أن هذه الوضعية الحرجة التي تمر بها المعارضة الآن كان من الواضح بأنها حاصلة لا محالة، ومع ذلك فإن المعارضة لم تستعد لها، ولم تفعل أي شيء للتعامل معها في الوقت المناسب.
ولكن ما الذي كان بإمكان المعارضة أن تفعله في الأشهر الماضية لتتفادى هذا الارتباك الذي تعيشه اليوم؟
قطعا كان لدى منسقية المعارضة أشياء كثيرة كان يمكن فعلها لتجنب الارتباك الحاصل اليوم، بل إنه يمكن القول بأن العكس هو الذي كان يجب أن يحصل، ذلك أن منسقية المعارضة كان بإمكانها أن تكون هي من يربك النظام ويحرجه لو أنها تصرفت بحكمة وبعقلانية في الأشهر القليلة الماضية.
فبغض النظر عن طبيعة الصراع القائم، وعن من هو المخطئ ومن هو المصيب في موقفه، فقد كان من الواضح جدا بأن من يكسب الرئيس مسعود وكتلته السياسية سيكون هو الطرف الأقوى في الصراع القائم بين النظام ومنسقية المعارضة.
كان بإمكان منسقية المعارضة أن تتجنب هذه الوضعية الحرجة التي تمر بها اليوم لو أنها وافقت على مبادرة مسعود مقابل أن تلتزم المعاهدة بمقاطعة أي انتخابات يتم تنظيمها من قبل موافقة السلطة على كل بنود مبادرة الرئيس مسعود، خاصة منها البند المتعلق بحكومة وفاق وطني.
لقد كان من السهل جدا الوصول إلى مثل هذا الاتفاق بين المنسقية والمعاهدة، خاصة في تلك الأوقات التي تعامل فيها الرئيس عزيز بجفاء واضح مع مبادرة مسعود.
إن اتفاقا من ذلك النوع كان سيؤدي إلى واحد من أمرين : فإما أن تنظم انتخابات تتوفر على الحد الأدنى من الشفافية، أو أن تنظم السلطة انتخابات أحادية تقاطعها المعاهدة والمنسقية مما سيجعل للمقاطعة تأثيرا كبيرا على تلك الانتخابات التي لن تكون لها أي مصداقية تذكر. تقاعست منسقية المعارضة عن مثل ذلك الاتفاق، وتركت الرئيس عزيز ينفرد بالمعاهدة وبمبادرة مسعود فحصل ما حصل.
لم يقبل الرئيس عزيز بتشكيل حكومة وفاق وطني، والتي تشكل أهم ما في مبادرة مسعود إلا أنه في المقابل قدم تنازلات قد تبدو في ظاهرها كثيرة، وإن كانت في جوهرها قليلة الأهمية ( تأجيل موعد الانتخابات بأسابيع معدودة، قبول توسيع اللجنة المستقلة للانتخابات، القبول بتأسيس مرصد لمراقبة الانتخابات، القبول بلجنة برلمانية للتدقيق في عمل الحالة المدنية، الوعد بتعيين وزراء مستقلين في الوزارات التي لها صلة بالعملية الانتخابية..).
وهنا لابد من أن أذكر بأني كنت قد حاولتٌ من خلال مقال سابق نُشر في آخر أسبوع من السنة الماضية، وكان تحت عنوان "ارحل بلحن 2013" ، أن أنبه منسقية المعارضة على أهمية إبرام اتفاق مع المعاهدة كأفضل وسيلة متاحة لفرض الرحيل. كما أني ومنذ أسابيع قليلة نشرتُ مسودة لاتفاق مفترض بين منسقية المعارضة والمعاهدة، وهو الاتفاق الذي كنت أتمنى أن يحصل بين المعاهدة والمنسقية، وذلك لتفادي مثل هذه اللحظة الحرجة التي تمر بها المنسقية اليوم، والتي قد تؤدي بها إلى التفكك.
وحتى لا نضيع الوقت في الحديث عن الفرص الضائعة، وما أكثر الفرص الضائعة، فدعونا نطرح السؤال التالي : ما الذي يمكن أن تفعله الآن منسقية المعارضة للخروج من هذه الوضعية الحرجة بأقل الأضرار؟
قبل الإجابة على هذا السؤال اسمحوا لي بأن أوجه برقيتين عاجلتين: الأولى للحزب الذي ربما يكون الأقرب للمشاركة في انتخابات 23 نوفمبر، والثانية للحزب الذي يقود جناح مقاطعة الانتخابات داخل المنسقية.
البرقية الأولى لحزب "تواصل": على التواصليين أن يعلموا جيدا بأن مشاركتهم في انتخابات ٢٣ نوفمبر بشكل منفرد دون بقية أحزاب المنسقية ستقوي من حجج خصومهم التي تتهمهم بالانتهازية. كما أنها ستجعلهم للمرة الثانية يخرجون عن إجماع كتلتهم السياسية، كانت المرة الأولى خلال ترشحهم بشكل منفرد عن الجبهة في رئاسيات ٢٠٠٩. وعلى التواصليين أن يتذكروا جيدا بأنهم هم من جر المنسقية لرفع شعار الرحيل، لذلك فإن مشاركتهم ـ بشكل منفرد ـ في انتخابات مع النظام الذي كانوا ـ وإلى وقت قريب ـ يطالبون برحيله سيكون لها الأثر الكبير على مصداقيتهم ومصداقية حزبهم. ولن يكون بالإمكان تجاوز ذلك الأثر في المستقبل المنظور، خاصة منه ما هو متعلق بالبعد الأخلاقي في العمل السياسي، والذي يقول التواصليون بأنهم يولونه اهتماما كبيرا في كل أنشطتهم ومواقفهم السياسية.
البرقية الثانية لحزب "التكتل" : على التكتليين أن يعلموا جيدا بأن مقاطعة المنسقية للانتخابات القادمة مع مشاركة بعض الأحزاب التي تحسب على المعارضة ( أحزاب المعاهدة) لن تأتي بنتائج كبيرة. وعليهم أن يعلموا كذلك بأن المقاطعة قد نؤدي إلى نزيف وهجرة من حزبهم ومن بقية أحزاب المنسقية إلى الأحزاب المشاركة في الانتخابات، خاصة من أولئك الذين يعانون من ضعف في الولاء الحزبي، أو أولئك الذين يعتقدون بأن بإمكانهم أن يفوزوا إذا ما ترشحوا.
والآن لنعد إلى سؤالنا السابق: ما الذي يمكن أن تفعله الآن منسقية المعارضة للخروج من هذه الوضعية الحرجة بأقل الأضرار؟
إن أول شيء على المنسقية أن تفعله هو أن تخرج بقرار جماعي، إما بالمشاركة الجماعية أو بالمقاطعة الجماعية، وذلك لأن كلمة المنسقية تعني لغة واصطلاحا بأن هناك حدا أدنى من التنسيق في المواقف والقرارات بين المنخرطين في هذه المنسقية. وإذا لم تنسق الأحزاب المكونة لمنسقية المعارضة في الموقف من المقاطعة أو المشاركة في الانتخابات القادمة، والذي يرتبط بأهم قرار يمكن أن تتخذه تلك الأحزاب، فإنه لن تكون في هذه الحالة أي فائدة أصلا من تأسيس المنسقية.
وإذا ما صحت التسريبات التي نُشرت بعد اجتماع لجنة الحوار فإن الرئيس مسعود هو الذي سيتصل بالمنسقية لإقناعها بضرورة المشاركة في الانتخابات القادمة، ولذلك فإنه سيكون من الممكن استغلال ذلك اللقاء لإبرام اتفاق تلتزم فيه أحزاب المعارضة ( المعاهدة والمنسقية) أن يدعم بعضها البعض الآخر في كل الدوائر الانتخابية التي يصل فيها مترشح من المعارضة الموسعة إلى الشوط الثاني مع منافس من الأغلبية. كما أنه سيكون بإمكان المعارضة أن تتقدم بحزمة من الشروط القابلة للتنفيذ للرئيس مسعود، وذلك مقابل مشاركتها في الانتخابات القادمة، فإن قُبل بتلك الشروط، شاركت، وإن رُفضت قاطعت.
ومع أنه لا يمكن التنبؤ بما ستحققه منسقية المعارضة إن هي شاركت في الانتخابات القادمة، إلا أنه مع ذلك لا يمكن إغفال بعض الأمور المستجدة والتي ربما تأتي في صالح المعارضة إن تم استغلالها بشكل جيد، ومن بين تلك الأمور:
1 ـ أن الترشح المستقل لم يعد ممكنا، وأن الترحال بعد الفوز لم يعد كذلك ممكنا، ولاشك أن ذلك سيخدم المعارضة كثيرا في أي انتخابات قادمة، خاصة إذا ما عملت المعارضة على أساس أنه ليس المهم في هذه المرحلة بالذات أن تتقدم بمرشحين أكفاء لهم تاريخ حزبي ناصع، وإنما المهم هو التقدم بمرشحين مؤهلين للنجاح حتى ولو كانوا من خارج أحزابها، وحتى ولو كانت كفاءتهم محدودة. إننا نعيش وللأسف الشديد ديمقراطية عرجاء، ولذلك فإن التركيز يجب أن يقتصر على البحث عن أغلبية برلمانية تُحسب للمعارضة، ويمكن لها أن تعجل من ترحيل النظام القائم بشكل دستوري خاصة أن تبديل الولاء الحزبي لم يعد ممكنا من بعد الفوز.
وهنا قد يقول قائل بأن المعارضة قد لا تستفيد وحدها من منع الترشح المستقل، بل إن الاستفادة الكبرى ستكون للأحزاب الصغيرة المنخرطة في الأغلبية والتي ستستقطب غالبية الممنوعين من الترشح في لوائح الحزب الحاكم.
ولهؤلاء أقول : إن للمعارضة شعبية ثابتة قد تكون قليلة في بعض الدوائر ولكنها موجودة، وبالتالي فإن وجود تلك الشعبية سيغري بعض المترشحين المستقلين للترشح من أحزاب المعارضة. كما أن الاتفاق بين أحزاب المعارضة في أن يساند بعضها البعض في الشوط الثاني، إن أبرم ذلك الاتفاق، فإنه أيضا سيغري أيضا المستقلين للترشح من خلال لوائح أحزاب المعارضة.
2 ـ من حسنات الرئيس الحالي أنه ساهم كثيرا في تقليص شعبية داعميه خاصة منهم أولئك الذين يُحتمل ترشحهم في الانتخابات القادمة. فلم يعد اليوم في الأغلبية من يملك شعبية غير الرئيس عزيز الذي احتكر كل شيء بما في ذلك الناخبين الذين احتكرهم لنفسه، وحرم بالتالي أغلبيته من أولئك الناخبين. ولا شك أن ذلك سيكون له الأثر الواضح على الانتخابات التشريعية والبلدية، ولا شك أن ذلك سيكون أيضا في صالح مرشحي المعارضة.
وعموما فإن الانتخابات القادمة ستتخذ واحد من شكلين اثنين:
فإما أن تكون انتخابات كثيرة التزوير عديمة الشفافية، وفي هذه الحالة فإنه على المعارضة ـ إن شاركت ـ أن تولي اهتماما كبيرا لتسجيل بعض التجاوزات والمخالفات وتوثيقها خاصة أن انتشار وتنوع وسائل التصوير والتوثيق سيسهل من تلك المهمة. بل إنه على المعارضة أن تعلن عن تخصيص مبالغ مالية هامة لكل من يأتيها بعملية تزوير موثقة. والغرض من كل ذلك هو أن تمتلك المعارضة أدلة موثقة يمكن أن تقدمها للرأي العام وللشركاء الدوليين بدلا من الاكتفاء بالحديث عن باء طائرة كما حدث في الانتخابات الماضية.
أما إذا تمتعت الانتخابات القادمة بالحد الأدنى من الشفافية فإننا في هذه الحالة سنكون أمام واحدة من حالتين:
ـ فإما أن تحصل المعارضة على أغلبية برلمانية وهنا نكون قد قطعنا خطوة هامة في طريق فرض الرحيل بالطرق الدستورية.
ـ وإما أن تحصل المعارضة على أقلية وهنا يجب أن يتم التركيز على الانتخابات الرئاسية القادمة لفرض الرحيل، وذلك من خلال البحث ـ وفي وقت مبكر ـ عن شخصية وطنية توافقية قادرة على أن تنافس الرئيس الحالي، أي أن تكون قادرة على أن تجمع حولها كل أحزاب المعارضة، وبعض رجال الأعمال المختلفين مع النظام الحالي، هذا فضلا عن تمتعها بالقبول لدى شرائح واسعة من الموريتانيين الذين ليست لهم ولاءات ولا انتماءات سياسية. حفظ الله موريتانيا..