يعتبر نضج الوعي السياسي المدخل الصحيح لتحقيق إرادة الإنسان وتحديدها كما يعتبر من الدعائم الرئيسية التي ترتكز عليها عملية التنمية بكل أوجهها في أي مجتمع. و من المعلوم أن طبيعة هذا الوعي وأهميته تتحددان وفقا للظروف السياسية
والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع في أي بلد. و بدون شك فإن تنمية الوعي السياسي في بلدنا، مثل كل بلدان العالم الثالث الذي نسير في آخر صفه، ترتبط ارتباطا جوهريا بثلاث قضايا أساسية هي تحديدا ممارسة الديمقراطية، و التنشئة السياسية السليمة، ودعم المشاركة السياسية الفعالة.
و بالطبع فإنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال جهاز إعلامي قوي قادر علي تنميتها كلها. و هنا تعتبر الصحافة ذات أهمية في تنمية الوعي السياسي وتلعب دورا كبيرا لدي الجماهير شريطة أن تتم ممارسة هذا الدور في جو تسوده المسؤولية و إدراك جسامة المهمة و الحرية في عمليات الإصدار والتحرير المقيدين باحترام مواثيق المهنة و قوانين تنظيمها كما تمثل الإذاعة المسموعة والمرئية مركزين هامين بين وسائل الاتصال الجماهيري حيث تطلع السكان على أحوالهم و تربطهم بالعالم الخارجي. وبالرغم من هذه الأهمية إلا أن ضعف هذا الدور يرجع إلي ضعف المرتكزات التي قام عليها و إلى سرعة التحامه و منذ الوهلة الأولى، دون رقابة أو توجيه، بالمعطى الاديولوجي و المعتقدي و كل توجهات الرأي الأخرى المشكلة للنسيج السياسي القائم - في تناقض مثير- على المفاهيم التقليدية التي لم يقو عليها التحول الفكري الذي يطبع العصر، الأمر الذي لا سبيل إلى تفسيره بالمنطق الكرتيزي بالتأكيد عندنا نحن الموريتانيين.
في الأوساط الثقافية في بريطانيا تنتشر مقولة مشهورة تجسد المنطلق الأساسي لوسائل الإعلام في بريطانيا و تقول: "إنك لا تستطيع أن تفهم الإعلام البريطاني ما لم تفهم الرأسمالية البريطانية".
أما عندنا فـ "إن أحدا لا يستطيع أن يفهم الإعلام الموريتاني ما لم يفهم العقلية الموريتانية الموزعة بين الشك في كيان الدولة و اليقين بصرامة القوالب التقليدية".
و لأي كان أن يتصور مواقف الإعلاميين إلى جانب أصحاب النفوذ الغارقين في اعتبار هذه العقلية كلما اقتربوا أو التحموا بالنسيج السياسي و نزلوا إلى بؤر العمل الموسمي و اختلط عندهم في حميمية مطلقة حابل الإعلام و السياسة مع نابل معطيات القوالب بكل ثقلها و قد حملوا لواءها و أمنوا لبقائها و هم المحسوبين على النخبة، حصلوا المعارف الحديثة من كل الجامعات في العالم و تقلدوا المناصب العليا و جمعوا من المال العام ما يؤمنون به الفوز في كل الاستحقاقات و الزيارات لضمان البقاء في دائرة قوة السلطة و وافر مردورها بتخطيطهم و تسييرهم و توجيههم.
نعم لتنقية حقل الإعلام لكن... أفقيا و عموديا
في بيانها الذي جاء على الأرجح متأخرا أصابت نقابة الصحفيين حين وضعت الأصبع على الجرح النازف في جسم حراك الأمة الذي لا مناص من أن يلعب دوره عاجلا أم آجلا. و من للوطن غير إعلامييه لإزالة ظلال الطواغيت إن حجبت شمس العدل و إزاحة بطانات السوء التي تألب الحكام على شعوبها و تمتص خيرات البلد في دوامة الفساد التي تمسك بدواليبه، شريطة أن يكون هؤلاء الإعلاميون من صلصال كالفخار يدركون مشقة المهمة و يبدءونها بتنظيف بيوتهم.
هنا يجب أن تكون البداية. رصد بكل شجاعة و تجرد لأصحاب الميدان و تصنيفهم حسب ما تبين به قدراتهم و تنضح به جرارهم. عندها و كما يقول المصريون في لهجتهم ما معناه " إن عمق ماء البركة يكذب المدعي إجادة السباحة". و ليس هذا الإجراء بالصعب إذا ما تضافرت الجهود المؤمنة بضرورة تنقية الحقل و توجهت إلى العمل الميداني. و هو العمل الذي يجب أن يجرج بحصيلة تتضمن كافة أسماء العاملين من دون قناعات مهنية و أو قدرات إعلامية توجيهية و الآخرين الأدعياء و الأوصياء على الإعلام من:
- "متواجدين" في الساحة بجرائدهم و مواقعهم و إذاعاتهم و تلفزيوناتهم و استشاراتهم الاستثنائية،
- و "منتحلين" بجرأة "العارف" بـخبث "المستهدف السياسي" و "المتقلد لمناصب عالية" و "المضارب بالمواقف السياسية" و "السمسار" ذو القدم الراسخة في سوق "نخاسة الذمم".
حتى تنقشع الظلمة عن الجدير بالاستمرار عن بينة و ينزاح بلا هوادة من يزاحم تعديا أصحاب العطاء فى ميدانهم عن بينة كذلك.
و على الرغم من إقرار النقابة بتنامي ظاهرة انتحال صفة الصحافة و بعدما لاحظت استجابة "شخصيات وازنة" في الجمهورية، خوفا من مجهول غدهم، لابتزاز أدعياء المهنة الذين انتقلوا، كما يفعلون دائما- خلال الزيارة الأخيرة لرئيس الجمهورية إلى ولاية الحوض الشرقي- لغمر الصحفيين الحقيقيين الذين لم يكن لهم من هَمّ سوى أداء عملهم وفق ضوابط المهنة، فإن مطالبتها السلطات باتخاذ إجراءات رادعة وفقا لما تنص عليه القوانين المعاقبة لانتحال الصفة ضد هؤلاء المنتحلين المتمثلين أنفسهم قوة ناعمة و المتمالئين معهم المنتهجين "الفوضى الخلاقة" مسلكا لضمان بقاء مصالحهم الأنانية، أمر كان من المفروض أن يمثل المرحلة التالية لما تقدم من الضرورة القصوى لتمييز أهل العطاء في الحقل من غيرهم و حتى لا يسبق السيف العذل.