ليس الطبيعي أن نتفق في كل شيء، بل الأقرب إلى الطبيعية هو أن نختلف ونتشرذم إلى طوائف وأحزاب كل منها فرح بما لديه..
لكن الغير طبيعي هو أن نسيء إدارة الخلاف المقدر علينا، فالإختلاف لا مفر منه لأنه ضمن ابتلاءات الدنيا، وهو ككل الصعوبات يتطلب حسن إدارة وتعامل..
والحياة مبنية على صعوبات جمة، واختلاف في الألوان والعقول والأديان والآراء التي تلعب فيها العقول والقلوب دورا مهما في تحديد المخطئ من المصيب، والسعيد القابل للحق من الشقي الرافض له تعصبا وحماقة.. وإذا تأملت هول عذاب جهنم في ظل عدل الرب علمت أنه لن يدخلها إلا من يستحق عذابها المهول، أي بإختصار كل من تجاوز الحد وطغى في الكفر والفواحش، وبالتالي تعلم أن الإنسان أو الجني الخبيث هو أسوأ مخلوق على وجه الأرض لأنه استحق بأفعاله النار، ونعلم أن الحذر منه أولى من الثقة في بياض ابتسامته وطول سجوده..
وبالمناسبة من دلائل انتكاس القلب مجاوزة الحد في الذنوب، فإذا رأيت شخصا يستهين بالقتل أو يفتخر بتعاطي الفواحش فاعلم أنه على خطر لأن كأس خبائثه قد امتلأت حتى فاضت على لسانه، والإنسان المبتدئ في الذنب ليس كالإنسان لمتغلغل فيه، وكلما زاد المرء تكرارا وتقدما في الذنب كلما تشربه قلبه ومال نحو الإنتكاس والبعد عن الأوبة، وصاحب القلب المنتكس بلا دين أو خلق فهو في هذه الحياة كالميت لا يحييه شيء..
فيجب المبادرة بالعودة عن الذنوب، وعدم قطع العلاقة بالله أبدا لأنها المساعد الأكبر على التوبة، فمثلا ينبغي الإتصال الدائم بالقرآن الكريم قراءة وحفظا وتفسيرا، وتخصيص بعض الوقت الموقوف على أرباح الدنيا والثرثرة مع الناس، لتعلم العلوم الشرعية لأن من يعلم ليس كمن لا يعلم، فتلك صلة مهمة تربط المرء بربه، وتساعده على تجنب الغفلة المبعدة عن التوفيق..
وقد قال الدكتور وجدي غنيم في محاضرة له ملاحظة مهمة في رأيي، وهي بخصوص طرق التعامل مع أهل الباطل، فالخبيثين قد خلقوا ليدخلوا جهنم فماذا ننتظر ممن قدر عليه العمل بعمل أهل النار؟ روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) الآية، فقال : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال : إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار) انتهى.
فبدلا من السخط على من يؤذينا ليل نهار أو يخالفنا، وشغل النفس بالتفكير في أقواله وأفعاله المؤلمة، وتصديع الرأس والراحة بكلمات مثل: قاتل لعين، زاني قذر، صوفي خرف، وهابي متطرف، انقلابي كذاب، ناصري مجنون، بعثي أحمق! يجب الانطلاق من أننا لا نملك تغيير مصير من لا يعجبنا، فذلك قدره، أن يعمل بتلك الأعمال، أو ان يكون من أهل السوء، لكننا نملك عدم شغل بالنا به وبالحقد عليه وسبه وتكفيره وعدم احتماله كأنما يعصينا نحن بدلا من خالقه، كما نملك النصح له ما أمكننا، فإذا لم يمكننا فالسلامة من شره والبعد عنه أفضل، لكن اغلب المخطئين - غير المتمرسين الذين يرتزقون من الخطأ - قابلين للنصيحة لا ينتظرون إلا ان يدلهم الأخر على الخير..
لذا لا تشغل نفسك بالنظر إلى الوهابي (إن صح الوصف) على أنه وهابي متطرف أو نجس كما يردد الرافضة الأنجاس حقا، ولا إلى الصوفي على انه صوفي خرف (إن صح الوصف)، فالكل بشر يخطئون، وعلى من يعرف خطئهم أن يعيدهم إلى الحق بالتي هي أحسن (أي من خلال فهم حقيقة الخلاف وأدبه)، وموضوع هذه المقالة هو طرق إعادة أولئك المنحرفين إلى الحقيقة في أجواء هذه الحروب العشواء التي تشن على كل يفتح فمه برأي مخالف لا يقتل ولا يجرح احدا..
فقدر بعض الناس هو الذي قد يقوده إلى الجحيم، وبغضه لوسائل التوصل إلى الحق، ورفضه لكل ما يمكن أن ينفعه بالنصيحة هي نتائج حتمية لذلك القدر المحتوم، فلنحمي أنفسنا من شر المفسدين من دعاة جهنم الذين يقفون على أبوابها يقذفون من اطاعهم فيها، دون مجابهتهم بشر مماثل قد يوقعنا نحن أيضا في الزلل المحظور، ويجعلنا مخطئين موذيين مثلهم، لأن رد الضربة بضربة مماثلة يجعل الراد ضاربا كالضارب، بل قد تكون ضربته أدهى وامر فينتج عنها ما لا تحمد عقباه والعياذ بالله لأننا إذا استسلمنا للشيطان فقدنا الحكمة التي تضبط أفعالنا وردود افعالنا..
وأنا أرجع فشل المرء في تجنب عذاب جهنم الرهيب الذي لا يقع فيه إلا مستحقه - أعاذنا الله وإياكم منه - إلى فساد القلب، وذلك اعتمادا على الآية الكريمة (إلا من أتى الله بقلب سليم) فسلامة القلب في رأيي هي أساس كل خير، وليس التبحر في العلم وحفظ مئات المجلدات أو قوة البديهة والعقل هو الأساس، ولذلك تجد القلب المشرب بالمرض هو سبب النفاق والضلال والإعراض والكفر وبغض الرأي المخالف رغم دلالة العقل والروح على صوابه، وقد عجب الرسول صلى الله عليه وسلم من عقل أبي جهل كيف لم يهده إلى الإسلام! ومثل أبي جهل في الناس كثيرون..
فكيف نعجب من السيسي الذي قتل حتى اليوم أكثر من 3000 شهيد؟ كيف نعجب من مسيلمة الذي اختار الكذب رغم عقله ومكانته في قومه؟ كيف نعجب ممن أضل الناس بالكذب والتدليس من مشايخ وتلامذتهم الضلال، ألا يمكن أن يكونوا ممن اختار الضلال على الهداية والعذاب على الرحمة، وقد قال الله تعالى عن تلك النوعية من الناس: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين).. فحظر ومحاربة الرأي الأخر هو حظر للنفس قبل ذلك لأنه قد يمنعها من خير وافر ينفعها في الدنيا والآخرة..
إن المشكل الموجود يوجد بين الأفكار والمذاهب لا بين متبنيها، فلندع الأفكار تتقاتل بعنف عقلي هادئ لا بذاءة فيه ولا خساسة، ولنتبادل الإحترام والتراحم لعلنا نصل إلى الصواب في أجواء هذا التدليس الذي يخيم علينا..
وإليك قاعدة بديهية بسيطة يجب الإنطلاق منها وهي أن من يخالفنا في الرأي له علينا حق من جهتين لأنه أخ لنا في الإسلام: الأولى: إما أن نهديه إلى الصواب الذي نحن عليه. الثانية: إما أن نقبل منه صوابه إن كنا نحن المخطين.. وفي كلتا الحالتين لن نخسر شيئا.
أما السكوت وبغض المخالف والانغلاق على الجماعة وردم الزاوية على أنفسنا وعلومنا الخاصة فر يدل على وضوح المسلمين الذين ليس عندهم ما يخفونه أو يخشون إظهاره ومناقشته علنا ودعوة الناس إليه، ولن يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والدين هو النصيحة كما ورد في الحديث الصحيح، فلا يسكت عن تبيان الحق وإظهاره للآخرين إلا من سار على خطى الشيطان..
أما حظر الآخر وتسفيه فكره ورأيه - مهما كان -، وادعاء تطاوله على الرموز والخصوصيات - التي قد تستحق النقد فعلا فلا شيء ولا أحد معصوم من الخطأ غير الرسول صلى الله عليه وسلم بشهادة أكبر العلماء والأولياء –. فالهدف من تلك الدعاوى المنفرة من أهل الرأي الآخر هو زيادة التباغض والتنافر بين المختلفين حتى لا يجلسان على طاولة واحدة ويتوصلان إلى الحق من خلال عرض وجهات النظر المختلفة ودحض الأفكار الباطلة بالدليل والعقل. وهذه الحروب التي تنشب بين المتخالفين فتجد هذا يكره هذا وهذا لا يحتمل هذا، كان أولى بها أن لا تتجاوز الأفكار لأن الخلاف يدور حولها وحله يكمن في غربلتها بعد الرضا بعرضها ومناقشتها دون عقد نفسية وتضليل مقصود..
وبعض العامة وأشباه المتعلمين من المقلدين يحظر على نفسه سماع أو لقاء أو القراءة لبعض العلماء المعروفين بجرأة في النصح له ولأمثاله، وتأليفهم لكتب الكثيرة في ذلك - كابن تيمية وغيره مثلا – التي لا يملك مخالفيهم المنغلقين على باطلهم وضحاياهم المنهوبين تأليف مثلها، فيكرههم لمجرد أنهم اختلفوا مع فكر شيوخه دون حتى أن يكلف نفسه عناء إثبات أنهم على باطل والنصح لأتباعهم إن كان ما عند شيوخه خير مما عندهم، ما الذي سيخسر في الحالتين: إما الإهتداء أو دلالة الناس على الحق..
كذلك ولد سوء إدارة الخلاف لدى أكثر المتخالفين الخوف من جرح مشاعر الآخر التي قد تكون مجروحة أصلا بالباطل الذي يعتقده، أو صدمه بشحنة الحق المؤلمة التي تذيب الأوهام التي نشأ عليها وتشربها عقله المريض، وذلك لعلمهم بأنه تربى على وهم أساسه أن النقد موجه إليه شخصيا وإلى شيوخه الذين يعبدهم!
بل وجد من العلماء الأجلاء من فضل السكوت على ضلالات المذاهب الضالة في نظره تجنبا لوقوع صدام غير مرغوب مع إخوة له في الحياة الإجتماعية أقل ما يُفقده راحة البال، وهو مطالب بالجهاد في سبيل الله ولو بالكلمة، حتى أصبحنا لا ندرى من سوء إدارة الخلاف هل هو معذور أو لا..
فما أقبح شراسة ذلك الباطل، وما أغبى الأبرياء الذين يعبدون طواغيته، أما الطواغيت الدعاة إلى الضلال فالتدليس والخبث هو منطلقهم فهم يعرفون أن مناقشة أفكارهم الباطلة تعني إزالتها وإزالة ما يجنونه من أرباح منها، لا أشبع الله بطونهم وفروجهم، وبالتالي يزرعون في الأبرياء المغترين بهم كراهية الإنفتاح على الآخر خوفا من تقبل رأيه ونبذ الباطل، وبالتالي خواء صناديق النذور التي يرتزقون منها، والكف عن زيجات المتعة والبركة التي يتمتعون بها، يعني بإختصار: محاصرة مصالح بطونهم وفروجهم التي يعتبر إشباعها بالحرام أهم ما يميز أهل الباطل، فإذا رأيت شخصا يربح من الناس بإسم الدين (نذور البركة، وغيرها)، وينكح نسائهم بإسم الدين (متعة، تبرك وغيره)، فأعلم انه أقرب إلى الشياطين منه إلى الصالحين..
فلندع يا أخي الأفكار تتصارع ونحن مبتسمون متغاضون متسامحون لعلنا نصل إلى الحق أو نوصل الجاهلين المساكين إليه، ونكسب بذلك الأجر والثواب إضافة إلى هداية إخوة لنا في أمس الحاجة إلى الهداية أو الإنتقاع بما عندهم في حالة افضليته على ما عندنا.. أما حظر الآخرين والإنزواء في زاوية حادة بعيدا عنهم، وصم الآذان عن كل ما يخالفنا، خصوصا إذا ادعى انه على الحق ودعانا إليه بجرأة فهذا يستحق الإهتمام به فإما أن نبين له خطئه فننفعه وإما أن ننتفع بما عنده ، فالبغض والحظر ليس من وسائل المتحرين للصواب أو الناشرين له الذين يعرضون بضاعتهم ويناقشونها بكل أريحية باحثين عما يجهلون ومتكرمين بما يعرفون، لا يضرهم في سبيل ذلك سوء فهم الجهلة ولا عباراتهم الجارحة بل يعذرون مخالفيهم لأن الخلاف قدر لا يمكن رده، ويحاولون النصح لهم قدر الإمكان بدل لعنهم وتركهم يتأرجحون في الضلال..
واليوم توجد مسائل دينية وفكرية وحتى سياسية تصعب مفاتحة أصحابها في باطلها، وإذا فعلت ذلك لعنوك وأبغضوك وعزلوك إن لم يأكلوك!..
وهذه أمثلة صريحة: فمن المواضيع الدينية مثلا: الخلاف الكبير الموجود بين طرق الصوفية المتمسكة بالمحدثات والمنهج السلفي المتمسك بالأصول، كل طرف يدعي انه على الحق، لكن يندر أن يتحاور الطرفان بصراحة بنية الوصول إلى الحق وقبوله، فتجد الصوفي بالكاد ينصت لمخالفه بحجة معاداة ذلك المخالف لدينه وشيوخه!، والمعادة موجودة لا يمكننا إنكارها، لكنها موجودة بين الرؤى والتوجهات لا بين أصحابها المتبنين لها، فما يضر من الحوار أمام الجميع سعيا إلى إحقاق الحق الذي هو حق واحد في الأصول، وذلك انطلاقا من أن سماع الفكرة المخالفة لا يقتل ولا يمرض ولا يفقر. فمن عنده حق وجب عليه أن يهدي إليه غيره، ويجب ان يطمئن إلى أنه لن يتعرض للتشهير والعزل، ومن لا يملكه يهديه غيره إليه، ما الغضاضة في ذلك؟ لن يخسر احد شيئا إذا انفتح على الآخر بنية الإفادة والإستفادة بل بالعكس سيربح الكل، إما هداية غيره أو الإهتداء على يده، وفي الحالتين يحصل العاقل على الخير الكثير، وقد يتجنب الشرك الأكبر الخطير..
لماذا يسكت الجميع ويتبادلون المجاملات الكاذبة وبعضهم يعرف أن إخوته على ضلال ومهددون بنار الباطل الذي رفسه الدليل!
أما المواضيع الفكرية والسياسية فمنها ما لا يمكن الإقتراب منه كنقد القومية العربية مثلا، وبعض المذاهب الفلسفية، وإذا تأملنا سبب ذلك كله وجدناه التعصب المقيت المظلل بسواد القلوب..
فنقدي للصوفية أو القومية لا يعني أنني أبغض أصحابهما، وكيف ابغض إخوتي في الدين وجيراني في الوطن! بل هي محاولة للنصح ولا شيء غيره، ورفض لواقع مقيت يفرض علينا السكوت على المنكر، ونحن نستطيع دحضه بالحوار إن شئنا دون حتى أن ننطق بكلمة بذيئة واحدة، خصوصا القادرين على ذلك كجهابذة العلماء الذين يبغضهم البعض لمجرد أنهم يخالفونه في الطريقة والتوجه..
فلماذا نخنق الرأي الآخر بمثل هذه القسوة؟ أليست تلك جريمة يعاقب عليها قانون الفهم والتصرف الصحيح؟ أليس النقد مجرد كلام موجه للرؤى والأفكار؟ ما دخل الخبث والحقد والنظرة القاتمة إلى الآخر في الأمر؟ ألا تدل تلك التصرفات الوقحة على أن أصحابها على باطل؟ فالمحق لا يخشى النقد ويشفق على مخالفه ويسعى إلى التقرب منه والنصح له بدلا من الفرار منه وبغضه ولعنه..
فلندع الآراء والمذاهب تتصارع حتى الموت، ولنتراحم ونتعاطف ويقبل بعضنا سماع مخالفه والنصح له إن كان مخطئا، وأخذ الحق منه إن كان محقا.. تلك هي الإدارة المنتجة للخلاف التي ما لم ننتهجها سيظل الباطل يحول بيننا وبين ريادة الأمم، ويقيدنا بحبال الخرافة وسوء فهم الدين..