في وقت تعاني فيه الأمة من الكبت وانغلاق الفكر والعقل والتردي في مهاوي أنماط التخلف لا يملك المرء إلا أن يكون عونا وداعما لكل صوت تحرري يناضل لتحرير العقل والفكر لا سيما إذا كان هذا الصوت في مجتمع أسير لتقاليد بالية،
سليب لعادات وافدة، يتقاطع جميعها في استعباد المرأة بالشبهة وغيرها لشهوة وغيرها، في أبعد صورة عن ما أراده الإسلام للمرأة من تحرر وصيانة وفاعلية لا تتناقض مع فطرتها.
من هذا المنطلق فإننا نشد على يدك وندعمك في كل محاولة لتصحيح مفهوم خاطئ أو علاج ظاهرة جائرة انطلاقا من تفكير حر لا يصادم قطعيا، غير أنه لنا وقفات عند ما ورد في مقالك (تصحيح زلات الإعلام الرسمي) من التعريض بالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه وجمعنا به في جنات النعيم، وذلك حين وصفته بالفقر والإكثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع له عمر من التحديث وأن عائشة حكمت بكذبه.
⦁ الوقفة الأولى: في التذكير بأن الفقر ليس مذمة ولم يكن في يوم من الأيام مانعا من الانشغال بالعلم بل كان معينا عليه كما في حالة أبي هريرة هذا الذي لم يكن له هم طيلة أربع سنوات من آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له هم غير خدمته والأخذ عنه، ثم إن التعيير بالفقر ليس من شأن المناضلين إذ يشي بمستوى من الثقافة الطبقية التي لا تلائم المناضلين، بل نخشى أن يهتبل ذلك بعض المتهكمين على النساء في الركون إلى الثراء مستدلين ببييت الملك الضليل:
أراهن لا يحببن من قل ماله ** ولا من رأين الشيب فيه وقوسا وقوله منافسه الفحل:
فإن تسألوني بالنســــــــاء فإنني ** خبير بأدواء النساء طبيـــــب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ** فليس له من ودهن نصيـــــب
يردن ثراء المال حيث علمنــــه ** وشرخ الشباب عندهن عجيب
- الوقفة الثانية: في لفت الانتباه إلى أن إكثار أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى سببه الظاهر الذي هو طول الملازمة في فترة هي فترة وفرة التشريع وإتمامه، هو كذلك معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في البخاري أنه قال: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، ألزم رسول الله على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله ذات يوم، وقال: « من يبسط ردائي حتى أقضيَ مقالتي، ثم يقبضه، فلن ينسى شيئا سمعه مني فبسطت بردة كانت عليّ، فو الذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئا سمعته منه"
وأما ما ذكرت من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه نهى أبا هريرة عن الحديث فليس صحيحا، وإنما نهاه عن نشر حديث البشارة حتى لا يتكل الناس عليه وأقر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته.
- الوقفة الثالثة: في أنه قلما يصح الحديث عن أبي هريرة إلا وكان له شاهد يصدقه، ومن ذلك هذا الحديث الذي كان محل استدراك منك، لم ينفرد به أبو هريرة بل أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار" ورواه مسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن يعني الشؤم" ورواه كذالك من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس" فتبين أن الحديث صحيح من طرق جماعة من الصحابة وقد اقتصرنا منها على ما في الشيخين أو انفرد به مسلم وكفى بذلك.
- الوقفة الرابعة: أن الراجح في معنى الحديث أنه لا طيرة ولا شؤم في شيء ولو قدر أن يكون في شيء لكان في هذه الثلاثة فالحديث استبعاد لوجود الشؤم لا تقرير له وكما قال في عون المعبود: المقصود منه نفي صحة الطيرة على وجه المبالغة، فهو من قبيل قوله لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، فلا ينافيه حينئذ عموم نفي الطيرة في هذا الحديث وغيره وكان ينبغي التركيز على هذا المعنى بدلا من تضعيف ما ليس ضعيفا واتهام من ليس متهما.
- الوقفة الخامسة: أن ما روي عن عائشة من تكذيب أبي هريرة في هذا الحديث لا تعني به الكذب بمعنى الافتراء وإنما الكذب بمعنى الخطأ، وهو معنى من معانيه عند العرب يقولون كذب فلان يعني أخطأ وكذب الظن وكذب السمع وكذبت العين كلها بمعنى أخطأ لا بمعنى افترى، وإنما تقصد أنه أخطأ الفهم حين ظن معناه على ظاهره، والحقيقة أنه لا طيرة، وقد حكمت عائشة رضي الله عنها بتصديق أبي هريرة في قضايا رفعن لها عنه من ذلك ما رواه البخاري بسنده إلى نافع مولى ابن عمر أنه قال: حدث ابن عمر أن أبا هريرة رضي الله عنهم يقول: من تبع جنازة فله قيراط، فقال أكثر أبو هريرة علينا فصدقت يعني عائشة أبا هريرة وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فقال ابن عمر رضي الله عنهما لقد فرطنا في قراريط كثيرة. هذا ما أردت تنبيهك إليه وفقني الله وإياك وكل مدافع عن حق ضائع.
الأستاذ محمدن بن الرباني
رد على المقال