كان يوما متعبا إلى أقصى حد، فقد ترددت ثلاث مرات على وزارة البيئة لأنجز تحقيقا عن غرق مدينة نواكشوط، وقد أخذ مني التعب وحرارة الجو وعبور سيارتي للمستنقعات الموجودة في طرق وأزقة نواكشوط، التي تعفنت مياهها لمرور أيام على تساقط الأمطار مأخذه،
وأخيرا دلني موظف في وزارة البيئة على المدير المعني بالموضوع، الذي جئت من أجله، تنفست الصعداء، ودخلت على الكاتب الخاص للمدير المعني وكانت المفاجأة، كان في انتظار المدير موظفين يعملان في ميدان الصحافة، قدمت لهما التحية لأنهما يعملان معي في نفس المؤسسة التي تحمل اسما عريقا كنت إلى وقت قريب أدافع عنها باستماتة وأردد دائما أنه لا يمكن أن يطلق على من يعمل بها اللقب الحقير الذي يعرف به الصحافة اليوم (البشمركة) والغريب أن الزميلين كانا ظريفين معي من قبل ويتسمان بالمرح واللطافة، والأغرب أنهما تغيرت ملامحهما عندما قدمت عليهما، وتبادر عندي أنهما ظنا أنني أتيت لنفس الغرض الذي أتيا من أجله، وطبقا على أرض الواقع المقولة الشعبية التي تقول: (الصَّـكُّوطِ ما يحملْ صَاحْبُ) فجاريتهما وجلست في الجانب الآخر كأنني لا أعرفهما، وفي الحقيقة وددت لو أنني لا أعمل معهما في نفس الميدان لأنني كنت أرى في أعين الحاضرين نظرات الازدراء والاحتقار، وفي تلك الأثناء حاولت أن أبرئ نفسي من الاتهام الذي قرأته في أعين الموظفين في الإدارة المعنية، فقلت للموظف الموجود في المكتب: ألا يمكن أن أجد الوثائق عند أحدكم حتى أتفادى انتظار المدير لأنني بكل بساطة لا أريد منه إلا بعض الدراسات التي تتعلق بغرق مدينة نواكشوط ويمكن لأي موظف عادي أن يزودني بها فاعتذر قائلا: إنها موجودة عند المدير فقط.
وبدأت أبحث لزملائي عن مبحث شريف في مخيلتي لأبرئهم من الموقف المخجل الذي هم فيه، ولكن في تلك الأثناء وصل المدير وخاطبني: تفضلي، وفي تلك اللحظة وقف أحد الصحفيين ودخل معي على المدير فنظر إليه متفاجئا، فبدأ (البشمركي) يقول له بالفرنسية المعربة: إننا كنا معكم في حملة التشجير السبت الماضي ونريد التعويض الذي تعطونه للصحافة. ففي تلك اللحظة تأكدت ظنوني، فظهرت أمارات التعجب على وجه المدير واعتذر له وطلب منه الرجوع غدا، ولكن (البشمركي) أصر على العودة في نهاية الدوام فوافق المدير على مضض.
وهنا أقف وقفة تأمل وتمعن في صحافتنا اليوم، أين المهنية والمسؤولية والمصداقية التي يمكن أن يتحراها الرأي العام من صحافة تطرق كل الأبواب لتحصل على بعض فتات المسؤولين؟ أيمكن أن يرجى من هؤلاء الطماع المتشردين أن يغيروا العقليات أو يقدموا خدمة للوطن، فهم همهم الوحيد هو الحصول على (كرديم) مهما كانت الوسيلة، من صورة محسنة أو من شريط محمول، فالمتسولون يقفون على الشوارع والكل يعرف هدفهم، أما هؤلاء (البشمركه) فهم يتقمصون شخصية الصحافة ليتسولوا بطرقتهم الخاصة جدا والتي تزيدهم نذالة ودناءة في أعين الناس. قد يقول البعض أن هذا التصرف خاص بالصحافة المستقلة ولكن أقول لهم أن الذين أخجلوني من مهنتي وجعلوني أكرهها كانوا من الصحافة الرسمية وفي مؤسسة عمومية تتسم بالعراقة والقدم وكان من المفروض أن تكون المثال الأحسن لكل أجيال الصحافة القادمة، هذا السلوك الدنيء ليست مسؤولة عنه الصحافة فقط بل هناك دور للمسؤول الذي يقدم تعويضا لهؤلاء (البشمركه) فإذا لم يقدم تعويضا لهم فحتما سيتغير ما بهم من طمع، فالصحفي الذي يطلب التعويض بعد أداء عمله فهو يطلب شيئا ليس له فيه الحق، فهو يأخذ راتبا شهريا على هذا العمل ولا يصنف عملا إضافيا، فإذا كان خوفك – أيها المسؤول – من أن تقدم أفادتك مغلوطة أو بشكل رديء فتلك مسؤولية أخرى تعني المؤسسات التي تدفع للصحفي مقابل عمله، ويجب أن لا تتغافل عن نوعية العمل المنجز.
فأرجو من السلطات العمومية أن تقف لهؤلاء بالمرصاد وتطبق أخلاقيات المهنة الصحفية حتى يستريح المسؤول من هؤلاء (البشمركه) ويرد الاعتبار للصحافة النزيهة والمسؤولة والتي تحترم ميثاق العمل الصحفي النبيل.
فالكل يجب أن يقف أمام هؤلاء مدعي الصحافة، مسؤولين أو مؤسسات إعلامية أو نقابات صحفية حتى نرجع صحافتنا إلى الصواب وتكون نزيهة كما عهدناها.