قراءة في الآيات الأولى من سورة العلق / الشيخ ولد باباه اليدالي

 من المناسب  - ونحن في أجواء رمضان -  أن نتوقف مع الآيات الثلاث الأولى من سورة العلق؛ بما هي أول ما نزل من الذكر الحكيم على الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام؛ لعلنا نوفق في استجلاء بعض مرامي ألفاظها، وبعض ما تزخر به ملابسات تنزلها من دلالة وإيحاء غاية في الخصوبة 
 الآيات تبدأ بفعل الأمر (اقرأ) ويتكرر هذا الفعل مرتين؛ إذ تصدّر به الآية الأولى والآية الثالثة، وليس من المألوف أن يخاطب الأمي –  الذي لا عهد له بالقراءة والكتابة – بأمر كهذا؛ لأن خطابا من هذا النوع غالبا ما يحدث "الربكة" ويشعر بـ"النفور" ولعل شيئا من هذا القبيل حدث معه صلوات الله وسلامه عليه حينما خاطبه الملك لأول مرة بذلك؛ غير أن الأمر في هذه الحالة لا يخلو من مجال للتأمل والتفكير على الأقل {...لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (الذاريات، الآية: 37)، ولكن قبل أن نقلّب الأمر على وجوهه، علينا أن نستمع للسيدة عائشة وهي تروي لنا تفاصيل الحادثة: "عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: (ما أنا بقارئ.) قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني. فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3)}) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (زملوني زملوني.) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي.) فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرءا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أو مخرجي هم؟) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي" (صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، الحديث رقم: 3)
 من الواضح من خلال عرض هذه الوقائع التي يسوقها هذا الحديث الطويل بعض الشيء أن الأمر يتعلق باتصال غير عادي يحدث لأول مرة، ولكن الملاحظ لن يفوته فيه أمران لهما دلالة كبيرة؛ الأول هو الأمر بالقراءة لمحمد الأمي الذي رد على الآمر مرارا بأنه ليس بقارئ! والثاني هو ذعر النبي وخشيته على نفسه 
 بخصوص الأول بوسع المرء أن يقول بأن الأمر بالقراءة هنا ليس معناه أن تردد بصوت مسموع ما يتلى عليك فقط، وإنما المقصود – في نظري – القراءة الأبجدية؛ بدليل ورود القلم والتعليم بعد ذلك، ولاشك أن في هذا مفارقة؛ خاصة أن المخاطب أمي كما أسلفنا، إلا أن هذه المفارقة تتلاشي كلما تقدمنا خطوة نحو "المدلول الغائي" لهذه الآيات (الآيات الأولى من سورة العلق)؛ ذلك المدلول الذي يتحول بموجبه محمد إلى تلميذ في المدرسة الإلهية؛ حيث سيتلقى الفيوضات الربانية، والمعارف المولوية على امتداد ثلاث وعشرين سنة من لدن عليم خبير، هو الذي يقول له: {سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى} (الأعلى، الآية: 6)، وهو الذي يأمره بالاستزادة من هذا العلم اللدني الذي يتقاصر دونه كل علم مكتسب، فيقول له: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه، الآية: 114)، ومن هنا فلا غرابة إذا رأينا نبع هذا العلم يتدفق من فم محمد صلى الله عليه وسلم كلما تحدث؛ إذ يحدثنا مرة عن الأمم الغابرة حديث العارف الخبير بأدق التفاصيل...، ومرة عن الغيب وما يحتويه من مشاهد القيامة والجنة والنار والملائكة واللوح والكرسي والعرش...، ومرة يحدثنا عن المستقبل كأنما تتكشف سجف الزمان أمام ناظريه، ومرة يتكلم عن طبائع البشر وأصناف النفوس فإذا هو المجلي في هذا المجال والجذيل المحكك إذا جازت العبارة! ومرة في التشريع، وفي السياسة، وفي الحرب، وفي الطب، وفي الفلك، وفي اللغة، وفي الأنساب إلخ... فإذا هو السابق في كل ميدان، والمجلي في كل غاية {...صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...}! (النمل، الآية: 88)
 ومن هذا "المدلول الغائي" الذي أشرنا إليه من قبلُ، أن هذه الرسالة التي سيكلف محمد بتبليغها، والتي كان مفتتحها هذه الآيات (الآيات الأولى من سورة العلق) هي – بالدرجة الأولى – رسالة علم وعرفان؛ شعارها: {...هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ...} (الزمر، الآية: 9)، ومبدؤها: {...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...} (فاطر، الآية: 29)
 أما بخصوص الأمر الثاني، وهو ذعر الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام إزاء تنزل الوحي لأول مرة وخشيته على نفسه، فحسبما يبدو لي أن هذا الذعر، والخشية، ومجانبة الاقتناع في البداية يدل على رجحان العقل وتوقد الذكاء في جانب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن الاستسلام السهل والانقياد الأعمى ليس من شيم الأذكياء، ولا من عادة العقلاء، ولعل تاريخ الرياضات الروحية يحتفظ لنا بقائمة طويلة من سذج العبّاد الذين خدعهم الشيطان بحيله وحبائله، وأوهمهم خلاف الواقع فراحوا في ضلالتهم يعمهون... 
 وقد يكون نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المرحلة قد استبد به القلق وانعدام الطمأنينة إلى درجة همّ فيها بإلحاق الأذى بنفسه فغدا – كما يقول ابن كثير – : "مرارا كي يَتَردى من رءوس شَوَاهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسولُ الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع" (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج: 8، ص: 436 – 437)؛ إنه طلب اليقين ذاته الذي ساور أبانا إبراهيم من قبلُ؛ فقال: {...رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...} (البقرة، الآية: 260) 
 ويبقى حادث تنزل الوحي الأول في غار حراء حادث فريد من نوعه في تاريخ الإسلام إن لم يكن في تاريخ البشرية أجمع؛ بما يحمله من آثار ودلالات غاية في الثراء والعمق، يقول عنه أحد المفسرين: "إنه حادث ضخم. ضخم جدا. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا! إنه حادث ضخم بحقيقته. وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا .. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد – بغير مبالغة –  هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل" (سيد قطب، في ظلال القرآن، ج: 6، ص: 3936) 

 

24. مارس 2024 - 14:45

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا