قلت لنفسي: "هذه فرصتك أيها المنافق لقد أعجبتك خصلة في رئيس الجمهورية، أنت الذي طالما خاصمت المقربين منك في سبيل ارتداء المناسب من الثياب للأجواء والأعمال لا ما يفرضه المجتمع المتخلف على جسدك، هيا أشد بهذه الخصلة الطيبة التي تدل على تواضع الرئيس ورقيه مقارنة بالمنافقين اللاهجين باسمه"..
بدا الرئيس في يوم التشجير الأخير بلباس رياضي خيف يناسب المقام، ويبدو أنه مثلي يهوى التخفيف في اللباس والبساطة أكثر من التأنق المبتذل والغباء الذي ترى الأعراب بسببه يخنقون أنفسهم بالكرافاتات في أيام الحر المتقدة وهم يعتقدون أنهم بذلك يحترمون أنفسهم أكثر وهم يخنقون أنفسهم أكثر!
لكن لكل شيء إذا ما تم نقصان، فاللجوء إلى التبرير وإلقاء اللوم على الآخرين يعتبر أكبر دليل على تقصير اللائم وعجزه عن مواجهة المشاكل، وغالبا ما يلجأ إليه المستهزئون بالإصلاح، والمفتقدون للحلول الفعالة، فيهربون بذلك نحو الأمام بدلا من مواجهة الأزمات بصدق وجدية والتغلب عليها..
وعلى سبيل المثال نجد رئيس الجمهورية يكثر من جمل بمعنى "عندما أعجز عن فعل شيء فإن السبب هو أن السابقين لم يتركوا لي إلا هذه الأنقاض التي أحكمها". فالسبب في فشل إصلاحاته هو الحكومات الفاسدة التي سبقته، والتي لابد له من ذكرها سواء بمناسبة أو بغيرها، ولن يفيدنا ذلك ك في شيء لأن تلك الحكومات البائدة أصبحت من الماضي، وواجبه الأن هو تنظيف مخلفاتها، وقد أخذ على نفسه العهد بذلك..
وخير من تلك المبررات والهمزات إعلانه العجز عن مواجهة هذه التحديات بصراحة ليريح ويستريح، فذلك صدق مرغوب، وهو ما ينتهجه المسئولون في الدول المتحضرة، أما التبرير وإلقاء اللوم على السابقين واللاحقين، والمعارضين والخاضعين، والتأفف وبغض المعارضين بدل مواجهة المشاكل بروح المثابرة والإنفتاح فلن يفيد في شيء..
كذلك لا يفيد التذاكي ومحاولة التدليس وقلب الحقائق وطلب المستحيل من العاجزين كما فعل مدير المكتب الوطني للصرف الصحي عندما انتقد في برنامج تلفزيوني خوض المواطنين المرغمين في المياه الآسنة، وقال إن المجتمع المدني قد قصر في توعيتهم بعدم فعل ذلك!.. والسؤال الذي يطرح نفسه عليه هو: "ماذا بوسع المواطنين أن يفعلوا؟ هل يطيروا في السماء من أجل الوصول إلى وجهاتهم التي تحول المياه المتجمعة المتروكة بينهم وبينها، وبدل توعيتهم حول ضرورة الطيران أحيانا، كان الأجدر به التركيز على إبعاد تلك المياه عن أرجلهم؟..
لقد أعجبني في ذلك المدير الشاب ثقته في نفسه، وجرأته على الظهور على القنوات الوطنية كلما انهمر مطر وتفاقمت أزمة مكتبه الغير صحي، تماما كظهور رئيسه الأعظم في لقاءات الشعب في أوج الفقر والتدهور الذي يعاني منه الشعب المسكين ليرغم الأخير على الإنصات إلى تندارته وهم أحوج منها إلى السمكات التي توزع عليهم في أيام الإنتخابات والمظاهرات الغبية التي يقودها مناضلو الفيس بوك!!
إن شخصية الموريتاني شخصية عجيبة، فهي من جهة تجعله رجل خارق لا يعجزه شيء، وقد يفيد ذلك كثيرا من معارفه وعشيقاته، ومن جهة أخرى تطغى عليه اللامبالاة وقلة الصدق والجدية في العمل!
والعاجز عن تقديم حلول فعلية يستحب له الإنزواء والصمت إذا لم تتجسد إنجازاته الحقيقية على أرض الواقع، فانصح المدير وكذلك الرئيس بالإختفاء بعيدا عن النظار في زمن الأمطار لأن كثرة الكلام لن تشرب المياه الناقعة..
وينبغي عدم الحديث عن أمر لا زال في الغيب، فمثلا لن ينفع الرئيس ولا المدير القول بأننا ندرس إنشاء صرف صحي، لأن العاصمة قد تغرق قبل ذلك، فما يعني المواطنين هو الإنجازات الملموسة لا أنصاف الإنجازات وضرب الرمل (لكزانة)..
نعم إن الرئيس يعمل والحكومة تعمل والمدير يعمل، لأنهم إذا لم يعملوا لن توجد حكومة تجتمع كل أسبوع من أجل تحديث المشاريع والميزانيات، وإعادة إدخال المدسوسين من أبناء الأصدقاء والوجهاء في المرافق العمومية أمام نظر رئيس الفقراء!
أما في الواقع بعيدا عن أحلام الرئيس وحكومته النائمة التي يمكن تصنيف مجلد في مساوئ كل وزير منها، فإن البطالة تخنق الشباب خصوصا المشرفين على سن الأربعين الذي حرموا حتى من أبسط الحقوق وهو الأمل بالمشاركة في مسابقة النجاح فيها على كف عفريت..
كما شابهت الحلول المقدمة من أجل القضاء على البطالة حل أل 15 صهريجا المخصصة هذه الأيام لإمتصاص مياه نواكشوط العفنة، والتي لا تمتص إلا عددا قليلا من العاطلين عن العمل من أبناء المناطق الخاصة (الوجهاء) كما تفعل تلك الصهاريج التي تمتص القليل من مياه الأماكن الخاصة..
إن العاصمة بلا أرصفة! والطرق متقعرة، والكبات تنقل من مكان إلى آخر، والفقراء يضيقون ذرعا بالغلاء والتهميش ورئيس الفقراء، والهجرات متلاحقة من الداخل إلى نواكشوط، ولا تزيده إلا بشاعة وعشوائية، ولا تدل إلا على تخلف الذين فضلوه على أراضيهم الطاهرة، وأعجب ممن يدع دارا أو خيمة فسيحة ترابها نظيف ومحيطها نظيف، يتجاور فيها الإنسان والحيوان في وئام، من أجل العيش في مزبلة تسمى نواكشوط!
والأسوأ من ذلك هذا التمدن الكاذب الذي تحاول الدولة الغبية نقله إلى الداخل والبوادي البرئية، وأقول لأهل الداخل: ستندمون على الطرق المعبدة المتقعرة العارية من الأرصفة والصرف، وستكرهون الكهرباء التي جلبت لكم السهر وخزي المسلسلات المكسيكية، وتسببت في نسيانكم لبريق النجوم المتلألئة التي كانت تذكركم بقدرة الخالق جل وعلا، فليحمد الله من لا يزال منكم يحافظ على بداوته وصفاء أجوائه فذلك خير له من نواكشوط لأن التمدن الناقص حولها إلى مدينة شاذة، فلم تعد بادية صافية ولم تصبح مدينة حقيقية، فهي مسخ بينهما..
ولو أخذ أهل الداخل بنصيحتي لعادوا إلى أبقارهم و خيامهم فذلك خير لهم من المال الحرام المرمي وقلة الأمن والوفاء والعمل في مرصة كابيتال القبيحة، وعلى الدولة أن تضع لهم مستوصفات ومدارس على رؤوس الجبال بعيدا عن أحيائهم حتى لا تصيبها لعنة التمدن الناقص..
لقد أعطاني هذا المدير الشاب أكبر دليل على عدم جديته – تماما كما فعل رئيس الفقراء - ، فهو من جهة يتكلم عن نواكشوط كما لو كانت باريس، رافضا الإعتراف بمشاكلها الطاغية، وذلك ما يفعله الرئيس الذي يردد إنجازاته دون ملل ملقيا باللوم في إخفاقاته على الظروف والأشباح.. ومن جهة أخرى لا يدرك فظاعة القبح الذي وصلت إليه عاصمة بلد في العصر الحديث، وهذا لعمرك خطأ لا ينبغي أن يقع فيه مسئول مدرك للواقع المحيط به، فهو يتكلم على غرار رئيسه بعبارات الهروب إلى الأمام مثل:
"15 شاحنة لشفط المياه والمارة في المناطق المهمة من العاصمة!": وليست فيها منطقة واحدة مهمة تفتخر بها ساكنتها اللهم إلا إذا كانت منطقة القصر الرئاسي..
"ستنظف بيزرنو الكبات وأهلها": بيزرنو التي أرى أن عربات الحمير التي كانت تنقل الأوساخ أفضل منها، على الأقل كانت مجانية، أما هذه فتأكل أموالنا وهي تعلم مثلنا أن تغيير اسم المزبلة إلى اسم أنظف مستحيل، وانواكشوط بلا أسس كالأرصفة وغيرها هو مجرد مزبلة لا يمكن تنظيفها..
إن تجاهل قذارة السبخة والميناء وأخواتهما ليس هو السبيل المثالي نحو التغير، ومن المضحك ان يتحدث المدير عن ابتداء الصرف الصحي بالسبخة والميناء كأن هذه المقاطعات الثلاث لا تستحق هي نفسها صرفا صحيا من الوجود!
إن رغبة المدير مثل رئيسه في التمسك بما يسمى بالحلول الواهية بدل التسليم بضآلة الأمل في العلاج، وهو نفس الخطأ الذي ارتكبه الرئيس عندما نقل الكبات من مكان إلى مكان، وتركها تتكبب فيه مع شق بعض الشوارع الغير مجهزة فيها من أجل العودة إليها بعد أعوام لنقلها إلى مكان أبعد..
إن الرئيس عندما ترشح كان يعلم أنه سيرث إرثا ثقيلا من الأوساخ الظاهرة والباطنية (العقليات المتخلفة)، وقد وعد بالتنوير والتنظيف فليتوقف عن تلك الأعذار الواهية المستترة بإلقاء اللوم على غيره، وليف بوعده الذي قطع على نفسه، وهو قادر على ذلك إن عرف كيف يروض السباع التبتابة التي تتزاحم في وكره..
وأنصحه بالتخلي عن فكرة تمويل مشروع صرف صحي لمدينة نواكشوط، فتلك خسارة أخرى تضاف إلى كاهل البلد المسكين، وعليه توفير ذلك المبلغ الباهظ لبناء صرف صحي لعاصمة جديدة يتم بناؤها في مكان مختار بجوار البحر، يتم البدء فيها ببناء كورنيش طويل، تبنى عليه عمارات (محددة الطوابق لا تقل طوابقها عن عدد معين) تكون في أغلبها فنادق ومراكز تسوق مثلا، ثم تبنى المدينة عمقا وبصفات محددة يتم احترامها، وتبيع الدولة الشقق للمواطنين حسب قدراتهم المادية (بالتقسيط المريح)، ولن يتحقق ذلك إلا بالإبتعاد عن صنم أهل هذا البلد الذي يسمى "التبتيب"..
أما نواكشوط فلا يمكن تجميلها إلا بتحطيم وجهها، أقصد تحطيم أحيائها حيا تلو الآخر دون رحمة، وبناء أحياء عصرية أو عمارات، فالعمارة الشاهقة الواحدة يمكنها استضافة سكان حي بأكمله (وذلك أيضا بالبيع المقسط الذي يراعي حقيقة شعب رئيس الفقراء)، وبهذه الطريقة نوفر مساحات أكبر ونسهم في التخطيط لمدينة عصرية مشرفة، لكن الأمر في رأيي أصعب من بناء عاصمة جديدة بعيدا عن أوحال نواكشوط ومغاراتها المظلمة..
وعلى كل حال هي مجرد نظريات قد يصعب تحقيقها والخبراء اعلم بذلك، لكن المهم أن تترك كثرة الكلام مجالا للإنجاز الملموس..