تجربتي الفاشلة مع قناة الوطنية / سيد محمد ولد احمد

 سيد محمد ولد احمدتلقيت مكالمة من قناة الوطنية الجديدة، أخبرني المتكلم بأن علي القدوم في الغد لإجراء اختبارات المحررين.. وكنت قد ألقيت بسيرتي الذاتية في مزبلة وطنية أخرى كانت أهم عندي من الوطنية فاعتقدت أنها هي، وفرحت بذلك، وفي الصباح جئت في الموعد لأكتشف أنها القناة التي راسلتها بسيرتي ونسيت المراسلة..

قلت لنفسي: "لا بأس بإمكانك المشاركة في كل شيء، المهم أن تفلح في الخروج بشيء".. قدمت إلى عمارة في مكان قصي من تفرغ زين فإذا أمامي ما يقارب العشرين من التائهين عن العمل، كان بعضهم يصر على السؤال عن اسم المدير وقبيلته لأسباب يعرفها الجميع..

وجدت أمامي كهلين من فتيان التسعينات مررا تجربتهما الفريدة إلى الصغار المشكلين لأغلبية المتقدمين، فحاورتهما في الدين والسياسة قبل أن يناديني المشرف لأقابل الزميل حنفي، وكان الكهلان الثرثاران قد اخبرا الجميع بأنه ثاني مدير للقناة بعد كهل اكبر منه ومني ومنهما..

لم أكن أعرف حنفي من قبل، تذكرت الانتقاد الساخر الذي كنت أصب على موقعه (تقدمي) الذي لم أكن أحبه (ربما حسدا)، وعلى كتابه التقدميين الذين يبالغون في التقدم نحو الهاوية في نظري، وآمل أن يكون ذلك الإعتقاد هذيانا لا واقعا، خصوصا في حق الزميل الذي غيرت مقابلتي الأولى معه الصورة التي رسمت له بالألوان الباهتة في ذهني، والتي لو رسمتها لك الآن لرأيت فيها كاريكاتور رئيس الجمهورية المضحك!

كنت أحس انطلاقا مما تخطه أنامله أنه يحاول إثبات نفسه على حساب الآخرين فكأن كتاباته في نظري تقول: "هذه لغة هذيل الأصلية فأين لغتكم أيها الكتاب الأغبياء"، "هذه اللعنة التقدمي المصبوبة على رئيس الجمهورية وكل من والاه"، ولكن تبين لي أن العكس هو الصحيح – على الأقل بعد اللقاء -، وجدته شخصا هادئا متزنا خلوقا محبا لمهنته المتعبة يستحق أن يكون من أهلها المخلصين، حتى أنني أنبت نفسي على سخريتي من قناة الوطنية لما أخبرني احد الكهلين بأنه مديرها، فقد تردد في نفسي حينها خاطرا مضحكا، قلت لنفسي: "كان أجدر بهم أن يسموها "تقدمية" بدلا من "الوطنية"..

ولن أقول أنني نادم على انتقادي لإستخدامه في مقالاته للعبارات العربية البائدة التي لا تفهمها إلا القواميس، ولكني أقول أن الكتاب يشبهون الشعراء فهم اقرب إلى الجنون منهم إلى الرزانة والتعقل، فمثلا من يقرا انتقاداتي لبعض الأقوام يعتقد أنني أحمل لهم غلا في صدري، وما ذلك إلا بسبب جنون القلم الذي عندما يضع يرمي بثيابه نفقد السيطرة عليه..

المهم، دخلت قاعة الإختبار فإذا كاميرا مسلطة علي وجهي، قلت للمشرف: "يا إلهي! لقد تقدمت للعمل كمحرر لا كمقدم؟! زيادة على ذلك أؤمن بأنني لست صديقا للكاميرا"، فقال لي: "نحن هنا نجرب كل شيء، والعامل لدينا يجب أن يكون مستعدا لكل شيء"، فقلت في نفسي: "لن أخسر شيئا بإلقاء نشرة الأخبار"، قرأت ما كُتب لي، ثم كتبت خبرا طلبوا مني التفصيل فيه، ثم فشلت في أن أقبل، ولعل ذلك أراحني أكثر..

والملاحظ أن العامل لدى القنوات الوطنية يجب أن يكون صالحا لكل شيء، وهو ما يفسر مشاهدة مذيع الأخبار مقدما أيضا للبرامج الحوارية والترفيهية، بل لا يستبعد أن يعمل حارسا لمبنى القناة في حال مرض الحارس الأصلي!

ومن أبرز الإنطباعات التي يعطيها لك ذلك الفعل القبيح: أن التلفزيون لا يرغب في اكتتاب عدد كاف من العمال، ربما بخلا أو انتهازية واستغلالا، ولا يمكننا بالطبع لوم التلفزيونات الخاصة المنافقة فهي لازالت في بداية الطريق..

كذلك من الملاحظ على القنوات الخاصة ضيق الأستوديوهات مما يوحي بأن الغرفة الصغيرة قد تتوفر على ثلاث أو أربع برامج ما دام كل برنامج عبارة عن لوحة كبيرة تحمل اسمه توضع خلف المذيع وضيفة في مجال لا يتجاوز المتر المربع والنصف!

ومن الفروق بين التلفزيون الرسمي والقنوات الخاصة: أن الرسمي أكبر وأغنى وأكذب، وهذا سيكون في مرحلة أولى ثم قد تتجاوزه بعض القنوات إن تكرم كبار منافقي الأعمال بضخ نقود أكثر في القطاع الإعلامي الخاص، طبعا عندما يكون لذلك مردودية عليه..

والتلفزيون الرسمي أكثر نفاقا للحاكم من الخصوصي، فلابد من افتتاح نشراته باسم الرئيس المبجل الذي لا يخطئ، فكأنه ممول للشكر الممل للرئيس والتندر بمغامراته، مع عدم سلامة القنوات الخاصة من النفاق، وإلا فكيف تم الترخيص لها في بلد التبتيب؟ ومن مولها من الأغنياء المسبحين بحمد الرئيس حرصا على مصالحهم التي هي أهم عندهم مليون مرة من استقلالية الإعلام؟

ومنها أن المقدمين في التلفزيون الرسمي أقل تواضعا من المقدمين في الخصوصي، ولا أقصد الأبرياء والبريئات المكتتبين حديثا في الرسمي بل أقصد الأباطرة القدامى الذي عرفوا بالنفاق وثقل الروح!

ومنها أن القنوات الخصوصية تعتبر متنفسا للمعارضة المجنونة في حين أن الرسمي يتجاهل وجودها أصلا..

ومنها قلة الوجوه الجديدة الطارئة في القنوات الخصوصية لأن العمال فيها يؤدون أكثر من وظيفة براتب وظيفة واحدة، اجزم بأنه يتأخر كتأخر المطر عن الصحراء، أما في التلفزيون العمومي ففي كل شهر نرى وجها مدسوسا جديدا مما يدل على تفشي التبتيب وتسلط القائمين عليه، حتى كادت الشابة الأخيرة هداها الله أن تطرد بعض المقدمين الذين نجحوا في بعض البرامج المعروفة – ربما لإخلاء مقاعدهم للمحتلين الجدد، والله أعلم..

أما المقدمين الثقلاء فموجودون في كلتا المؤسستين، ومن علامات ثقلهم: سوء إدارتهم لبرامجهم، وعدم احترامهم لضيوفهم والمتصلين بهم، ومحاولتهم تقمص شخصية الأسد المهاب التي عفا عليها الزمن، التي يقاطع صاحبها محدثه ويسحب من تحته بلاط الحديث، ويعانده في الطرح، إضافة إلى صلابة وجوههم عند فعل ما يشين من نفاق للمتنفذين واعتداء على خطوط المتصلين وآرائهم.. وللأسف يعتبر أولئك الثقلاء أصحاب الحظوة والترقيات في القنوات وكان الأولى أن يطردوا ليرتاح المواطنون منهم..

أما البرامج عموما فمن أجودها في نظري: برنامج "مساء الخير" على التلفزيون الرسمي لولا مبالغة المقدمين أحيانا في المزاح وعلامة ذلك تجاوزهم الخطوط الحمراء إلى خصوصيات الزميل أو المحاور، مما يدل إما على المراهقة أو على الغباء لأن عرض الخصوصيات والطباع على الهواء من أغبى التصرفات وأكثرها تخلفا.

كذلك تفاهة أخبار المشاهير والأعاجيب التي لا تفيد المشاهد المسلم في شيء والتي خصصوا لها ثغرة أو فقرة في البرنامج .. وانتهاج طريقة الإعلام لا التعليم، والهدف من الأولى الإشهار فقط، أما الثانية فالهدف منها خروج المشاهد بالمعرفة فهي كالدرس تتطلب جهدا وعقلا..

أخيرا المهم هو أن ننقد ونتقبل النقد لأن ذلك مما يساعد على ظهور الحق، فلا شيء يخفيه أكثر من عدم التطرق إلى أشباهه، والأهم من ذلك انتقاء أطايب الكلمات، والعلم بأن النقد موجه إلى الفكرة لا إلى شخص الحامل لها، لأن حمله للفكرة أو طرحها ليس بأيدينا بل بيد الهادي وحده جل وعلا، فلنترفق حتى في سب الفكرة مع أن سبها لا يعني سب حاملها، ولنلتمس العذر لمخالفنا، ولنتعايش معه فهو حر في أن يؤمن أو يكفر..

وفي الأخير أتمنى لقناة الوطنية النجاح، وآمل ذلك لما لمسته من جدية واهتمام – والله اعلم..

12. سبتمبر 2013 - 9:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا