عرفت أسعار اللحوم في الآونة الأخيرة ارتفاعا غير مسبوق, مما كان له كبير الأثر على القدرة الشرائية للمستهلك الوطني خاصة في العاصمة نواكشوط، وقد أثارت موجة ارتفاع الأسعار تلك حملة كبيرة من الانتقادات و التعليقات من طرف بعض الكتاب والمدونين وجمعيات حماية المستهلك عبر المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي, غير أن
غالبية تلك الانتقادات لم تكن موضوعية – على الأقل من وجهة نظري- لأنها لم تتناول الموضوع بشكل متوازن وإنما كانت تنظر إليه من زاوية واحدة أي وجهة نظر المستهلك العادي , في حين كان هناك تجاهل واضح أو جهل بالجوانب المتعلقة بالمنتَج والمنتـج بكسر التاء (المنمى), لذا كان من الضروري أن يلم كتابنا ومدونونا بالحد الأدنى من المعلومات عن حقيقة تجارة المواشي بصفة عامة , وكيف تتم عملية تزويد أسواقنا بمادة اللحم الضرورية في حياة المستهلك الوطني, فبدون معرفة حقيقة أسواق الحيوان وكيف يلعب دورا حاسما في الدورة الاقتصادية للبلد, بدون ذلك تبقى أحكامنا وتفسيراتنا ناقصة بل فاقدة للمصداقية. وبقصد إنارة المواطن الموريتاني ومن يهمهم الأمر بصفة عامة, سأحاول قدر الإمكان أن أدلى بدلوي – كمهتم بهذا الموضوع – لأميط اللثام عن بعض الجوانب المتعلقة بتجارة المواشي في بلادنا, كيف تزود الأسواق المحلية الكبيرة بمادة اللحوم؟ وكيف تتم آلية العرض والطلب ؟ وماهي العناصر المحددة لأسعار اللحوم ؟ لا جدال في أن الثروة الحيوانية تلعب دورا بارزا في حياة كل الموريتانيين أو جلهم على الأقل, فعلاوة على القيمة الاقتصادية والمالية, تعتبر الثروة الحيوانية عندنا مصدرا للمجد الاجتماعي وللتوازن النفسي أيضا, ويتجلى الدور الاقتصادي في أن تلك الثروة هي مصدر العيش الوحيد لمئات الآلاف من الموريتانيين, كما أنها أيضا- وبحسب بعض الإحصائيات - توفر ما يربو على مائة ألف وظيفة وهو عدد يفوق بكثير ما تستوعبه الوظيفة العمومية اليوم, وقد أسهمت عائداتها المالية في تحسن الوضع المالي للكثير من الفاعلين في تجارة الماشية, وهو ما ساهم في التخفيف من البطالة خاصة في الأوساط الريفية وبالتالي رفع بعض العبئ عن كاهل الدولة, وتساهم تلك الثروة من جهة أخرى إسهاما معتبرا في أمننا الغذائي, إذ باتت أهم مصدر للبروتين والعناصر الغذائية الأخرى في موريتانيا . غير أن تلك الثروة مازالت تعيش الكثير من المشاكل, حيث ظلت كل السياسات الرسمية الموجهة لهذا القطاع دون المستوى المطلوب بل إنها عديمة الفائدة, فباستثناء عمليات التطعيم السنوي المنتظمة والموجهة خاصة للأبقار لم تحظى قطعاننا حتى الساعة بالعناية التي تستحق من طرف الدولة, إذ لا توجد على سبيل المثال دراسات تهتم بالأمراض المستوطنة والتي تسبب نفوق أعداد هائلة منها سنويا , كما لا يزال القطاع بعيدا كل البعد عن العصرنة, فما تزال أساليب التربية التقليدية هي السائدة حتى اليوم, وقد انعكس عزوف الكثير من مربى المواشي عن مهنة التنمية سلبا على القطاع, ضف إليه ندرة المتعهدين (الرعاة) بسبب الهجرة إلى الأوساط الحضرية, والارتفاع الكبير لأجور ممارسي مهنة الرعي. ورغم كل تلك العقبات ما تزال الثروة الحيوانية قادرة على تزويد السوق الداخلي بمادتي اللحوم والألبان الأساسيتين في عادات الناس الغذائية’ بل إنها تصدر بطرق غير منتظمة إلى بعض الأسواق المجاورة, مثل المغرب والسنغال وساحل العاج عبر جمهورية مالي. إن الإفراط الحاصل في استهلاك اللحوم الحمراء وطنيا زيادة على العوامل السابقة يشكل استنزافا خطيرا لثروتنا الوطنية, فقد لا يعلم الكثيرون أن مدينة نواكشوط لوحدها تستهلك اليوم مايزيد على مائتي رأس من الإبل يوميا في أيام النحر العادية, ضف إليها أكثر من مائة رأس من البقر وما يزيد على خمسمائة شاة, وتأتى مدينة نواذيبو في الدرجة الثانية في الاستهلاك – طبعا مع فارق كبير – إذ تستهلك عشرَ هذه الكمية, ناهيك عن باقي مناطق الوطن الأخرى, يحصل ذلك في وقت توقف فيه تدفق قطعان الشمال المالي نحو أسواقنا – لأسباب أمنية وتجارية - حيث كانت تشكل عامل منافسة قوي خلال السنوات الأخيرة لكنها كانت أيضا وسيلة لتخفيف الضغط عن ثروتنا الحيوانية في نفس الوقت. تبدأ دورة تسمين قطعان الإبل- في جمهورية مالي- الموجهة لأسواق استهلاك اللحوم بداية شهر يوليو من كل سنة وتنتهي مع مطلع شهر أغسطس, لكن تلك العملية في الغالب لا تتم دون حصول خسائر في القطعان نتيجة انتشار الأوبئة والأمراض وهو ما يترتب عليه تكبد تجار المواشي لخسائر كبيرة تنضاف إلى أعباء التسيير الهائلة والتي تحدثت عنها سابقا, ضف إلى ذلك كله تكاليف النقل من المناطق الداخلية عبر الشاحنات. إنها باختصار سلسلة طويلة ومكلفة وخطيرة يمر بها مسوقوا المواشي ليوصلوا هذه المادة الضرورية والحيوية إلى المستهلك في نهاية المطاف, فكيف إذن يتوقع المنصفون أسعارا أقل من الأسعار الحالية ؟ ولماذا لا نسمع نفس الأصوات تحتج على تضاعف أسعار الأسماك؟ وكخلاصة أقول إن زيادة أسعار اللحوم الحمراء هو نتيجة منطقية لعوامل عديدة تضافرت لتخلق هذا الواقع مثل: - النقص الحاصل في العرض نتيجة الطلب الكبير الذي سبب استنزافا كبيرا لتلك الثروة , فالأسماك لم تعد سلعة بديلة يلجأ إليها المستهلك في حالة زيادة أسعار اللحوم الحمراء, لقد أضحت سلعة منافسة. - الارتفاع الكبير في التكلفة بدءا بثمن الشراء مرورا بمصاريف التنمية والتسمين ونفوق القطعان وأخيرا تكاليف النقل. - تغيير وجهة مواشي شمال مالي صوب أسواق جنوب الجزائر والمغرب بعدما كانت وجهتها الوحيدة هي السوق الموريتاني . وأخيرا على المستهلك الموريتاني أن يعقلن استهلاكه للحوم الحمراء فالسنوات القليلة القادمة ستعرف فيها تلك المادة تصاعدا كبيرا, نتيجة العوامل السالفة الذكر.