عندما تلبس الأرض ثوبها القشيب، وتغازل الشمس بأشعتها مياه الغدران الرقراقة، ويغرد طير الخريف فرحا بمقدمه، يتجه الموريتانيون إلى الريف للانتجاع.
ومن الطبيعي أن يحرص الإنسان على راحته فى جو من الدعة والبحث عن معاني الجمال الطبيعية، لكن هجر المدن وتعطيل الحياة العامة لإشباع رغبات فردية آنية ليس وجها مدنيا ولا ينبئ عن حس حضاري لدى عامة المجتمع.
ومن هنا يجدر بنا التساؤل هل موسم الخريف بموريتانيا نعمة أم نقمة؟
ظلت عادة الموريتانيين هي الحل والترحال في الريف حتى مرور عقدين على الاستقلال حيث بدأت نواة لبعض المدن مع ما تقتضيه من تغير في أسلوب العيش .
ولكن نظرا لترسخ القيم البدوية في المجتمع حافظت غالبية الأسر في المدن على موعد زمني محدد للانتجاع في الريف"موسم الخريف".
قبل شهرين من هذا الموسم تبدأ الأسر عادة في الاستعداد بطرح السؤال حول أنسب مكان يتمتع بخصائص فصل الخريف بموريتانيا حيث الأجواء المنعشة والمواشي السارحة والطيور الصادحة والمياه المتدفقة والهواء العليل،والرمال الذهبية ومضارب الخيام والعادات البدوية الأصيلة.
وتختلف أوجه الاستمتاع بحياة الريف في فصل الخريف حسب الموقع الجغرافي وعادات السكان ودرجة التأثر وببعض أنماط السلوك الحضري والملبس.ولكن رغم ذلك يبقى لموسم الخريف ألقه حيث يمثل موسما حافلا بالراحة والاستجمام ويخصصه البعض لحفلات الزفاف ،كما تكثر فيه الذبائح واستعمال لبن الحيوانات،وتحرص الأسر الموريتانية فيه على الرجوع لعادات بدوية قديمة كالرماية و"السيك" وكرور"،مع استعمال لباس خاص للنساء "النيلة" لتلطيف لون النساء حسب مايقال،ويتنافس الرجال فيه من خلال سباقات الخيل والإبل ويكثر في هذا الفصل تنظيم السهرات الليلية على الرمال أمام الخيام وتحت أشعة ضوء القمر الزاهية ،ويحرص الجميع على استلهام معاني الطبيعة والتمتع بمناظرها مع التأمل في الفضاء الرحب واستنشاق الهواء النظيف والشعور بحرية لم يعهدوها بسب قيود المدينة.
ورغم بريق تلك الصورة فإنه يمكن القول إنها"الشجرة التي تحجب الغابة"ذلك أن هذا الموسم ليس كله نعمة بل أصبح نقمة منذ فترة ليست بالقصيرة على الكثير من الأسر الموريتانية حيث التكاليف المادية الباهظة والتفاخر بالأموال والحيوانات وربما الأولاد ،مع محاولة لنقل بعض متع المدينة للريف حفاظا على تكييف الجو اذا ما اقتضت الضرورة(الثلج،اجهزة تلفاز، غاز للإضاءة الهاتف، السيارة).
ولعل الأدهى والأمر من تعكير صفو الريف بتلك الأجهزة الخاصة بالمدينة أصلا هو أن الكثير من الموظفين باتوا يعتبرون الريف مصيدة للبحث عن الراحة على حساب إدارة الشأن العام وتعطيل حياة المواطنين،بدعوى أن الجميع خرج للاصطياف في هذا الفصل.
وقد يكون من الأسباب التي تجعل الموريتانيين يخلدون لحياة البداوة مع مقدم فصل الخريف ارتفاع درجات الحرارة العالية بالمدن الكبيرة وخاصة العاصمة انواكشوط التي تغرق بالأمطار في هذا الموسم مما يؤدي لتتكاثر المستنقعات والبعوض فيها ويحولها الى جحيم لايطاق.
ويعلل بعض الباحثين في "علم الاجتماع" ظاهرة هجر الموريتانيين للمدن نحو الريف"البادية" بما يلي:
- عدم وجود أماكن للترويح عن النفس في المدن الكبيرة
- تجذر البداوة في نفوس الكثير من الموريتانيين حيث الخيمة حاضرة على سطوح المنازل وفي أرقى أحياء العاصمة،وأمام ردهات المنازل وحيث تسرح الماشية دون رقيب بالمدن.
- ضعف اهتمام الدولة بترقية المدن على حساب الريف حيث يلاحظ افتقار عامة المدن لأبسط أبجديات التمدن التي توجد في نظيراتها من مدن العالم التي تزدان بالمتنزهات والمسارح المفتوحة طوال الوقت لتوفير الراحة والمتعة والترفيه للمواطنين.
- فوضى الحياة العامة ببلادنا حيث تتحكم القبيلة فى مسار الحياة وتحرص على خلق أماكن نفوذ لها توازي سلطة وقوة الدولة وهو ما ينتج عنه "التقري الفوضوي" في الريف الذي ساهم فى تبذير وتبديد المال العام وأثقل كاهل الدولة.
- ضعف الوعي بأهمية التمدن وسيطرة عقلية الخمول على الشعب بوجه عام.
- تراجع دور المثقف فى محاربة الظواهر الشاذة المتعلقة بالتقري الفوضوي وتعطيل الإدارة.
يتنفس الموريتانيون الصعداء بعيدا عن المدينة في فصل الخريف بين الجداول الرقراقة وعلى الرمال الذهبية .
وبالمقابل تموت الحركية بالمدن وتتعطل الإدارة وتبذر الأموال لإشباع رغبة آنية بالمتعة سيرا على قاعدة:" إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".