حدّث أحد الفرنسيين زميله الإيطالي وهو يتباهى، " أستطيع أن أشتم الرئيس الفرنسي و أنا في باريس". رد الإيطالي ببرود: " أستطيع أن أشتم الرئيس الفرنسي وأنا في روما." يظهر الحوار مستويات الشعور الوطني لدى الرجلين. ذلك المستوى الذي تمنى الكثير من الموريتانيين
لو أن زعيم المعارضة تحلى به، فلم يقبل أن يمثل الاشتراكيين الموريتانيين على قلتهم، حين تجاهل الماليون تمثيل كل الموريتانيين في الحفل "المهيب" الذي حدد هولاند موعده، مثلما حدد موعد الانتخابات المالية، وربما نتائجها...
لقد مثل حضور رئيس حزب التكتل بصفته رئيسا لحزب اشتراكي معارض تقدم إلى انتخابات شفافة خسرها شخصيا، وخسرها حزبه، وهو ما يعني أن الموريتانيين لم يرضوه، لا هو ولا حزبه، ممثلا لهم، افتئاتا على الموريتانيين، و لبسا لثوبي زور. فليس الحدث اجتماعا للاشتراكية الدولية، ولا هو منتدى للأحزاب المعارضة، وإنما هو حفل تنصيب يدعى له رؤساء الدول والحكومات. وكان حريا برئيس حزب التكتل أن يفهم الماليين، حين وجهوا له الدعوة، أنهم أخطؤوا العنوان، بعدولهم عن الممثل الشرعي للشعب الموريتاني الرئيس عزيز، وفي ذلك تدخل في الشأن الداخلي لبلد رئيس حزب التكتل، ما كان ينبغي له السكوت عليه.
لقد انقلب أحمد بذهابه إلى باماكو على إرادة الشعب الموريتاني حين ذهب يمثل حزبه حيث تمثل الدول برؤسائها وملوكها. وهي خطوة تدل على ضيق الأفق السياسي، وانعدام الشعور الوطني. فما الذي يربحه حزب التكتل من رحلة زعيمه؟ لقد استاء العديد من الموريتانيين من تلك الرحلة، وعدوها غير موفقة لأنها تذهب بالخلاف السياسي الصحي داخليا، إلى الخارج بحيث يقدم رئيس حزب معارض نفسه بديلا عن رئيس الجمهورية يمكن أن تلجأ إليه البلدان التي لا تشاطرنا التوجه السياسي. وبذلك تستغل البلدان الأجنبية وضعنا الداخلي للإساءة إلى صورتنا ومصالحنا.
والغريب في الأمر هو أن ما تنقمه منا السلطة المالية ظل محل إجماع لدى الأغلبية والمعارضة في موريتانيا، بما فيها حزب التكتل! ينقم منا الماليون رفضنا الانغماس في حروبهم الداخلية، التي كان رئيس الجمهورية سباقا إلى تحذيرهم منها. فحين كانت موريتانيا تواجه الإرهاب منفردة كانت السلطة المالية تقيم علاقات حميمة مع رؤوس الإرهاب، وأباطرة المتاجرة بالمخدرات والبشر حتى كشف التسوقُ المستورَ وحجمَ العمولات... وبذلك ظهر زيف ما كانت تروجه المعارضة من أن موريتانيا تخوض حربا بالوكالة. فحين زحفت الجيوش الإفريقية تحت غطاء الجيش الفرنسي، وقف الجيش الموريتاني عند حدود بلاده، يحميها من الإرهابيين، ويفتحها أمام اللاجئين الفارين من عنف الارهابيين واعتداءات الجيش المالي البطل! الذي عاد إلى الشمال مثخنا بجراح الهزيمة، ومثقلا بالأحقاد.
وينقم منا الماليون رفضنا إرسال قواتنا المشاركة في حفظ السلام، بعيدا عن خطوط إمدادها. فقد نصب الماليون فخا غضبوا حين لم يقبل الموريتانيون الوقوع فيه، كما وقع غيرهم. أراد الماليون الزج بجنودنا في الخطوط الأمامية، على الحدود الجزائرية، بينما يتقاتل جنودهم في باماكو حسب ألوان قبعاتهم! لا يحتاج المرء لأن يكون "ثعلب الصحراء" ليدرك أن الجيش، كلما طالت خطوط إمداده كلما كان عرضة لخطر الهزيمة، بل الإبادة. جربت جيوش نابليون ذلك في روسيا، ووقعت جيوش هتلر في نفس الفخ حين غزت الاتحاد السوفييتي. أضف إلى ذلك أن الجيش الموريتاني لا يذهب إلى مالي في مهمة قتالية، وإنما لحفظ السلام، وهو أقدر على حفظه على حدوده من الحدود الجزائرية.
وينقم منا الماليون إيواء بعض اللاجئين السياسيين من الشمال المالي. ذاك شرف لا يدعيه الموريتانيون، وتهمة لا ينفونها. فقد وجدت بعض الزعامات السياسية في شمال مالي أن حياتها في خطر في بلدها لأنها تمارس نشاطا سياسيا، وتدافع عن حقوق أقلية ظلت مضطهدة من الحكومات المالية المتعاقبة. وهي أقلية لا تستطيع أي حكومة موريتانية تجاهل معاناتها بفعل الروابط التاريخية والأسرية التي تربطها بالشعب الموريتاني. وكان إيواؤها عملا إنسانيا ينسجم مع المواثيق الدولية، ويتيح للحكومة الموريتانية التأثير الإيجابي على تلك القيادات للبحث عن حل سلمي لمشكلة الشمال المالي بدل اللجوء إلى الكفاح المسلح. فلم تسمح الدولة الموريتانية لأي وجود مسلح مناوئ للحكومة المالية. لكن تسليم سياسيين، يناضلون من أجل حقوق شعوبهم إلى حكومات تقتل على الهوية، وتأخذ بالظن، ليس من شيم الموريتانيين، وإن اشتهر به بعض من يحتفي بهم ببكر كيتا في حفل تنصيبه!
تلك هي أوجه الخلاف بين الحكومة الموريتانية وببكر كيتا، وهي التي جعلته ينظر إلى موريتانيا من خلال حزبه الاشتراكي. ستأتي الفكرة بعد السكرة، كما يقول المثل... سيدرك كيتا، بعد انتهاء الاحتفالات، وانصراف الوفود، أنه لا يستطيع أن يتجاهل جاره الموريتاني، وأن أحمد وحزب التكتل لا يمثلان الموريتانيين. عندها سيسلك الطريق الذي سلكه غيره.. سيبعث مبعوثيه، ووسطاءه إلى رئيس الجمهورية هذه المرة مستجديا استقباله في نواكشوط، وقد يستقبل، كما استقبل غيره، إن كان ذلك يخدم المصالح الموريتانية.
سيدرك ببكر كيتا أن السياسة الخارجية لموريتانيا لا تخضع للابتزاز. وأنه ليس سوى رئيس مالي عادي، صنعه رئيس فرنسي عادي. وسيدرك أحمد أن كيتا، حين دعاه، كان يعمل بمقتضى المثل العربي: إن لم تكن إبلا فمعزى...