بعد انقلا ب 1978 لم يشهد كيان الدولة الموريتانية ميلاد طبقة سياسية حقيقية تحمل عبئ شعب فوجئ بدولة سلمت له دون سابق إشعار علي حدود جغرافية شاسعة بحجم التحديات التي فاقت الإمكانات الضعيفة والطموحات لا تتماشى مع ما أتيح لولاة الأمر وقتها من مقومات دولة حقيقية .
واستمر العسكر في حكم البلاد منذ الإطاحة بولد داداه إلى يومنا هذا ولم تنجب البلاد بديلا سياسيا حقيقيا لتعذر وجود طبقة سياسية بقدر المسؤولية والخبرة والحنكة الضرورية لحكم شعب لم يعرف للدولة معنا حتى وقت قريب، وظل قدر الموريتانيين أن يحكمواـ قرابة نصف قرن بالبنادق والقبعات بدل صناديق الاقتراع وخيارات الإرادة الحرة...فهل بات حكم العسكر قدرا حتميا لموريتانيا؟ أم أن للتاريخ كلمة الفصل في الحكم على تغيير المسار السياسي للشعوب إذا غيروا ما بأنفسهم؟ و ما هو سر تشبث حملة السلاح في موريتانيا بتلابيب القصر الرمادي وتحول دورهم من حماة للوطن إلى حكام له وهناك بون شاسع بين المهمتين؟
إن فهم الخصوصية الحضارية لكل دولة عربية على حدة يفسر ببساطة سر ميول الجنرالات ا لي وضع اليد علي مقاليد الأمور دونما وازع أو رادع إذ لم يسجل التاريخ شنق أي مجموعة انقلابية إلا ما كان من أحداث 1989 ذات الطابع العرقي..فالمواطن الموريتاني البسيط مثلا ظل يختزل مفهوم الدولة في البدلة العسكرية بما تمثله من معاني الرهبة في قلوب المواطنين البسطاء فلا غرابة أن لا يثقوا في غير حكم القبعات لسبب بسيط وهو فشل نخبنا المدنية في تقديم البديل الواقعي للعسكر..فالنخب المدنية بمختلف مدارسها ومشاربها الفكرية والسياسية تقاعست وعجزت في معظمها عن الاضطلاع بدورها الطبيعي في نشر الوعي الفكري والسياسي بين المواطنين.
كما أن التاريخ القريب نفسه أثبت حتمية حكم العسكر رغم فشلهم علي مختلف الصعد وفشل كل البدائل المتمدينة التي قدموها من وراء حجاب لإقناع المجتمع الدولي بأن لا علاقة بين الكرسي والقبعة وهوما أثر سلبا علي المؤسسة العسكرية من جهة وعلي البلاد برمتها من جهة أخري...وقد شكلت القوات المسلحة علي مدى التاريخ السياسي القصير للبلاد البديل والأداة لأي تغيير سياسي في البلاد فكانت المنقذ والملاذ لمختلف السياسيين والقادة الراكضين وراء الأوسمة والألقاب وحصد المنافع الشخصية ...كل هذا ونخبنا مدنيين وعسكريين يغطون في سبات عميق وتقوقع متعمد علي الذات خدمة لمصالح شخصية لا تمت بصلة لإرادة المواطن المسحول بأداة القهر والتهميش.
وتتقاسم بلدنا سبب نزوع الضباط إلى القيام بانقلابات تمردية للحصول على السلطة وتتمثل في انعدام الوعي الفكري والسياسي لدى النخب المدنية وركضها وراء منافع ظرفية شغلتها عن دورها فى إبراز الحقيقة للمواطن وهي أن الحكم بيد المواطن يمنحه لمن شاء متى وكيف شاء وفق المبادئ الديمقراطية أو وفق وسائل معينة من وحي الخصوصية السياسية والحضارية للشعوب...وأن ليس للشعوب إلا سعت لنيله من حقوق عبر الأدوات والآليات القانونية...وأن دور العسكر يقتصر علي الذب عن حياض الوطن وينبغي أن يكون منفصلا تماما عن كواليس التخندقات السياسية فولاء الجندي للوطن لا للأشخاص وحماية الوطن ينبغي أن تكون أقدس عنده من حكمه لأن الوطن باق والحكم زائل....
هذا ويعاني معظمنا هذه الأيام من ما يمكن أن يطلق عليه "عسكرفوبيا هستيرية" وخوف قاتل من تدخل العسكر في السياسة خصوصا مع اقتراب موعد الاستحقاقات النيابية ، ولا ضير في خوض العسكري غمار السياسة إذا ترك بزته العسكرية ودخل عزلة شعورية تفصله عن ماضيه المتنافي مع روح اللعبة الديمقراطية...لكن المشكلة أن المؤسسة العسكرية أثبت فشلا ذريعا في إدارة البلاد منذ أول انقلاب وقع علي الرئيس المختار من قبل فرنسا وقتها لإدارة المستعمرة السابقة حديثة العهد بالاستقلال، لكن العسكر لم يتركوا للمرحوم فرصة تصحيح أخطائه القاتلة كخوض غمار حرب الصحراء مثلا و أجهزوا عليه ليسنوا بذالك سنة الانقلابات العسكرية في موريتانيا وليعلنوا بذالك وفاة النخبة السياسية المدنية إكلينيكيا، وسبقهم بسنن الانقلابات تلك عكاشات عدة في سورية والعراق وعدة دول عربية أخري. و أخيرا يبدو أن مصر دخلت علي خط مواجهة العسكر لخيارات الشعوب عبر تبرير وتنفيذ الانقلابات المسلحة...لذا فا لعملية الانتخابية في موريتانيا وغيرها من الدول العربية ظلت عديمة الجدوى مادامت حتمية تدخل العسكر قائمة لأن الوقوف لساعات طويلة في الطوابير لانتخاب هذا الشخص أوذاك كثيرا ما يصبح ضربا من إضاعة الوقت عندما يقرر هذا الجنرال أوذاك وضع يده علي الكرسي ضاربا عرض الحائط بإرادة الشعب ولا تعوزه المبررات لأي انقلاب محتمل لانعدام نخبة حقيقية تقول لا لتدخل العسكر في السياسة.