الإلحاد السياسي، الشرك بالوطن والكفر بالهوية / الولي ولد سيدي هيبه

للسياسة عند ممارستها قواعد و ثوابت و أصول لا انفصام فيها، إذا لم تحفظ في حدود مساحة كل منها ينقلب عطاؤها نقمة ما بعدها نقمة. و هي إذا بذلك المنطق إنما تصبح في ممارستها فرضاً اجتماعياً، على متعاطيها في سياقه أن يدركوا موقع ممارساتهم السياسية من الإعراب، والأهم من ذلك

 أن يلموا بقواعدها و يتثبتوا مواطئ أقدامهم في كل حركة و نشاط يقدمون عليه و يقومون به في مضمارها الذي هو بحجم الوطن و أطياف ساكنته بما تحمل و تتميز من ثقافة و خصوصية.

و للسياسة كذلك فرسانها الذين يؤمنون بجوهرها الطيب و قواعدها المثلى فلا يقبلون الإخلال بأي منها لفرط علمهم بما قد يسبب ذلك من الاختلالات و ما يترتب عنه من تداعيات و مخاطر أولها خسارة الوطن.

و السياسة، إن أحسنت بل و أتقنت "فرضا و واجبا" لا لعبة كما هو متعارف عليه في تعاطيها، تشكل أحد أهم عوامل الاستقرار و أنجع وسيلة لفرض مبادئ العدل و المساواة في ظل الحكامة الرشيدة و البناء الحتمي المنشود.

و إن المفتش بإمعان في نسيجنا السياسي عن هذه "الفصيلة" النبيلة لن يلبث أن يخلص إلى أنه لم يعثر لها على كبير أثر و الذي، إن تم تمييزه و وجد، إنه يكون على الأرجح مطمورا تحت أكوام مزاحميه من الملحدين السياسيين و غيرهم من المشركين بالوطن و الكافرين بالإنتماء إليه ممن يعج بهم واقع الساحة الملتهب.

و ملحدو السياسة هم الذين لا يؤمنون بـ"قدرها" خيره و شره و لا يبالون بأخلاقياتها العالية و لا بنبل مقاصدها السامية التي لا تخصص و إنما تشمل و لا تقصد الآنية بل تتعداها إلى الاستدامة. إنهم في شكهم و بشكهم إنما يعملون على هواهم بمقتضى ما ذهب إليه بتفسير عقولهم أفلاطون من أن "شرط العلم هو أن يكون المعلوم قضية منطقية صحيحة، مثبتة، ويمكن الاعتقاد بها".

هؤلاء "الملحدون" يعيشون - من منطلق كفرهم بما "وراء زمنهم"- للوقت الذي هم فيه مترفون و بمقتضى شركهم المزمن لا يخططون و لا يقتسمون. طبولهم تقرع في كل الميادين و مزاميرهم تنفخ في كل الرحاب عسى و عسى أن تظل مسموعة و مخوفة. و هم فوق ذلك من يفتشون عن المشككين في وجودهم و في قدرتهم على بلوغ مراميهم حتى يردوهم و يردوهم صاغرين عن مثل هذا الشك الذي لا يجوز إلا لهم. إنهم على اختلافهم سادة الميادين السياسية و المستفيدين، في كل الجولات، من المنطق المادي الذي تدار به و له اللعبة بكل أوجهه و تجلياته في التموقع و التوظيف و الاستفادة و الترف كما أنهم في حل من نبل الضمير لا يذوقون فيه وخزا و لا تأنيبا. لا يقض مضاجعهم إلا ما يكون منذ فترة قصيرة نسبيا من صعود تياري المشركين بالوطن و الكافرين بالإنتماء. و هما شوكة الغصة في زمن التخمة السياسية و ما تسببه من إسهال مجفف في غياب المراحيض و ندرة الدواء.

المشركون بالوطن تعرفهم بسيماهم، لا يفترون عن الترحال. يلبسون لكل رحلة إلى مجهول السياسة و معلومها لبوسا و يبشرون بمسيح دجال يقلب لمن هم في صفه المائدة على أهلها و يمسحهم مع فتاتها ثم يرميهم فضلات في مزبلة التاريخ... يمارسون السفاح السياسي نهارا جهارا، ينشدون أثناء "طقوسه" و "شعائره" المبتكرة أشعار البلاط الحاتمي المغدق تارة و أشعار البلاط الإخشيدي الممسك، قصائد منتقاة من متن "ديوان الفوضى" تارة أخرى... الوطن في قاموسهم لحظة من رضاهم و نفي من غضبهم. مسيحهم الدجال سكين في جسم الكيان للوخز و للكي عند الاقتضاء؟

الكافرون بالهوية جلادون جددا ولدوا، في أواسط سنين عمر الدولة المستقلة، على طريقة الاستنساخ من كدمات و صدمات العشوائية و الارتجالية. و بقدر ما لم يذق هؤلاء طعم الجلد بقدر ما باتوا يحملون العلامات الوراثية له آثارا محفورة على صفحات العقول و محترقة في براكينها المستيقظة، فابتكر بعضهم "لغة" لحاجة الأنين خرجت على قاموس الوطن و التحمت بأهازيج من خارج مساحته لم تلبث أن اتستسلمت لرياح السموم الارتدادية التي يخالطها وثب على الثوابت و جرأة على المعتقد و إن كان من حتميات التصحيح و دواعي اللحمة و الاستقرار أن تزال بحرب لا هوادة فيها كل الرواسب من شوائب الماضي.

الكفر بالوطن الشمولي اتخذته أيضا "عقيدةً" تيارات أخرى في زمن "ميوعة الكيان" لتندمج جزءً مؤثرا في النسيج السياسي العام، تخلط الأوراق، تقلب صفحة تاريخ الوطن رأسا على عقب، تقيض عملية التنمية و تعد البلد للتفكك إلى كيانات متناحرة... و ما الدعوة الصريحة من هذه التيارات إلى ذلك إلا مسألة وقت إن... لم تأخذ الأمور مجرى غير الذي هو سائد و تتجه إلى محاربة هذه التيارات الهدامة قبل السقوط في حبائلها و التخبط في ويلاتها.

ثلاثية (الإلحاد السياسي و الشرك بالوطن و الكفر بالهوية) طاغية بغير أسمائها و صفاتها الحقيقية على المشهد السياسي - و إن بقدرة فائقة لا تكاد تُدرك أو بالأحرى تَترك أثرا أو علامة - تقلبه ذات اليمين و ذات الشمال، لا عربيا و لا إفريقيا و لا إسلاميا موحد المنهج و الاتجاه، تصارع فيه أهله على الأرضية الزلقة لخلفيات غير آمنة و توحده في اعوجاج على خلفيات أخرى أقل طمأنة لا صلة له بها البتة، و كأن البلاد مختبر جديد للشطط الفكري و لوافد الرؤى من تحررية و قومية و عرقية و ذات علاقة بحركات التمرد و الإرهاب و التجارة في الممنوع، باسم حقوق الإنسان تارة و باسم الجهاد والدين تارة أخرى. و الأغرب من كل هذا هو وجود مثل هذا الجو العام "الساذج" الذي تعبُر فيه البلاد بخطوات سريعة إلى مرحلة يكتب مصيرها بأحرف لن يستطيع "شمبليون" أن يفك رموزها و طلاسمها الهدامة، و كأن السذاجة سمة غالبة و "قدر" يفرض نفسه لحصول الأسوأ في غياب لا عنوان له لطبقة مثقفة واعية تدرك أن مسؤوليتها، بعيدا عن كل تصنيف من أي نوع كان، تتمثل تلقائيا في سد الأبواب أمام الشوائب و معيقات التوازن و النافيات للخصوصية.

فهل يطرق "عبقر" السياسة أبواب أصحاب المشورة و الحنكة من السياسيين و مددهم من المثقفين، ليلهمهم تنظيف فضاءاتهم من مثل هؤلاء المفتقرين إلى الإيمان بالوطن و من أفكارهم المضطربة المشوشة والمشوبة بوافد الفكر، فيعلنوا عن مواثيق شرف منقاة من دنس الإلحاد و الشرك و الكفر بالسياسة و الوطن و الهوية و يرفعوا راية خلاص الوطن خفاقة و بناء ديمقراطيته مهابة... ديمقراطية لا سبيل لخروج هذا الوطن مما هو فيه، من تجاذبات عقيمة و ما هو محدق به من أخطار نتيجة لذلك حقيقية،... إلا بها؟

29. سبتمبر 2013 - 9:01

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا