{ما حاورت أحداً إلا تمنيت أن يكون الحق إلى جانبه} "الإمام الشافعي"
ما كان للحوار الذي انطلق في رحاب قصر المؤتمرات، أكبر فضاء للتجمع في البلد، أن يتوقف دون استيفاء كل نقاطه، ذلك بأنه منذ لحظة افتتاحه الأولى لم يعد ملك أي من الأطراف المتحاورة علما بما هو مرجو أن يكون قد حُمل من أعباء و هموم و طموحات أمة انحنت من
ضعف بفعل مترفي السياسة فيها حتى لامست سطح الأرض و باتت عاجزة عن الانتصاب لمواجهة التحديات الجمة التي ترهق كاهلها، تضعف نسيجها الاجتماعي، تمزق لحمتها و تقوض كل جهودها التنموية.
و ما كان للحوار قبل ذلك إلا أن لا يكون جادا و مجردا من النوازع الابتزازية و الانتهازية و المراوغة أو التسلطية المهيمنة، و خاليا كذلك من النوازع الشخصية التي تكون على العادة عالقة بالكيانات الاستعلائية أفرادا و مجموعات و تنظيمات و لا تمتلك حس الواجب اتجاه الوطن و أهله.
فالحوار ليس رجما بالقوة بل هو ضرورة قصوى لإبقاء العقل في دائرة التوازنات التي تنشدها متطلبات البقاء و الاستقرار للمجموعات و للدول. و الحوار الذي هو نشاط عقلي ولفظي يقدم خلاله المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة أو توضيح لقضية، إنما هو بذلك بمثابة "البوصلة" الحقيقية التي يهتدي بها ربابنة فلك الكيان الأكفاء في يم التحولات التي تعصف رياحها الهوجاء بكل عاجز عن مخر العباب و اللحاق باليابسة.
و"الإقدام" على الحوار شبيه بـ"الدعوة" إليه إذ الطرف المنادي و ذاك المنادى قد استجابا لنبله في القصد الذي لا يمكن أن يكون غير البحث عن القواسم الايجابية المشتركة و التوجه بها إلى تجاوز نقاط الخلاف المستعصية لحين استغلال ما يتم الاتفاق عليه و استثماره من أجل المرحلة الموالية. هذه الخطوة لا يمكن تجاوزها إذا ما صدقت النوايا و خلصت الأعمال، و هي أيضا الخطوة التي بمثابة الهدف الأول الذي يجب أن يتصدر جملة أهداف الحوار و مقاصده.
و عليه فإن الأطراف التي تقدم بشجاعة و طول نفس على الحوار ملزمة بالبقاء في حيزه و التشبث بروحه و المناورة في فضائه حتى يستوفي محاوره و يعلن عن نتائجه "حلوها و مرها".
ـ فإما أن يوفق المتحاورون، على خلفية حسن النية، و نبل المقاصد فيعطي الحوار نتائج مرضية تشكل قاعدة ثابتة للشراكة و إن ضِمْن الاختلاف في الرؤى و البرامج و لتدعيم الديمقراطية و تقويم اعوجاج مسارها؛
ـ و إما أن تعترضه معوقات فتحول دون التوافق.
هنا يجب على الحوار أن يدخل في مرحلة أخرى هي من صميم أسباب وجوده و دواع الإبقاء عليه و استمراره.
و تتمثل هذه المرحلة و هي الموالية أو الموازية أو هما معا في تعليق النقاط التي استعصت على الوفاق أو تجاوزها مؤقتا إلى محاور أخرى يتم البت فيها و تبادل الآراء حولها ريثما تتضح بعض الأمور و تستجد قراءات كانت بالأحرى غائبة بعيدا عن أسباب إعاقة الحوار كعدم الوضوح في وضع الفكرة و غياب الشفافية و الغضب و الانفعال و إخفاء الحقيقة و تجنب ما ذكر أفلاطون أنها أسباب ثلاثة رئيسية مسؤولة عن إعاقة التفاهم بين الناس من إصرار على إثبات صواب وجهة نظرهم مهما كان الثمن و تغيير موضوع الحديث وعدم القدرة على الاستماع.
و هي المعوقات التي إن روعيت و تجنبتها الأطراف كلها لكان الحوار ما زال متواصلا و لكانت بعض النتائج مهما كان حجمها ضئيلا قد تحققت فاتحة الباب أمام المزيد منٍ التقدم باتجاه حلحلة الأزمة السياسية القائمة و لكان الأمل الذي تجدد بنفوس المواطنين في ولوج مرحلة جديدة، من العطاء السياسي بعيدا عن التجاذبات، قد تجسد بإقبالهم في شغف و نهم على الأحزاب المتحررة من عقدة التخندق و لاكتشاف ذواتهم الضائعة فيها و تجديد أملهم باحتضانها إياهم.
و لما لم يدم الحوار أكثر من وقت عابر، أتاح فرصة تصنيفه بالعملية الهزلية الهزيلة، فإنه يتعين القول بأن انسحاب طرف و مقاطعته ثم توقيفه دون إشعار الطرف الآخر هو خروج على ضوابطه و إخلال بأدبياته، و يجب بالتالي تحديد المسؤولية فيه و عن إسقاط "أمل" و سد الباب أمام التوصل إلى أية نتيجة، حتى لا تهدر فرصة أخرى إذا أتيحت للحوار و حتى لا يظل الحوار شأن جهات أو أفراد، يقررون متى يحضرونه و متى يجهزون عليه و ينهوه.