التصوف: رحلة الروح إلى مقام الإحسان / محمد فال ولد يحيى

في رحلة الإيمان، تتجلى تجارب الروح ومراحلها سيرها المختلفة، حيث يسعى الإنسان إلى مراتب أعلى للقرب من الله تعالى والاندماج مع الحقيقة الروحية (قل الروح من أمر ربي) ومن بين تلك المراتب العليا يعتبر مقام الإحسان، الذي يمثل قمة مراتب الإرتقاء الروحي، مقام الإحسان أعلى منازل التقوى والتزكية في الإسلام، حيث يشير إلى حالة الروح التي تصل إلى أقصى درجات الانسجام مع إرادة الله وتحقيق الخير والجمال في الحياة. (فإذا أحببته كنته)، في هذا المقام يعمل المؤمن على أن يكون كما يراه الله، محبا وصادقا في كل أفعاله وأقواله.

التصوف هو علم التزكية ومكارم الأخلاق، وفيه يتعرف الإنسان إلى مسالك النفس وانفعالاتها وطرائق التعامل معها، والصوفية هم أهل المحبة والصفاء، وهم الذين يعبدون الله بعشق الروح لا بحد الحرف، ويقينا أن التصوف تأسس على يد علماء أجلاء كانوا من الراسخين في العلم وبلغوا أعلى درجات الاجتهاد وكانوا الأفضل من بين أقرانهم في زمانهم، وقد مارسه على مر العصور الإسلامية أيضا علماء أجلاء راسخون وأئمة وفقهاء وقضاة وتحول إليه أيضا علماء أجلاء بعد المناظرات او المكاشفات ،  وبنظرة فاحصة  على مدار التاريخ الإسلامي يمكن ان نذكر على سبيل المثال لا الحصر قائمة العلماء الأجلاء الراسخون في العلم التالية:

•  الحسن البصري (642-728 م): إمام وقاض ومحدث من العلماء التابعين ومن أكثر الشخصيات البارزة في عصر صدر الإسلام.

•  الجنيد البغدادي (828-910 م): يعد من علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف في الآن ذاته حيث يعتبر مؤسس مذهب الصوفية الجنيدية، وقد جمع بين قلب الصوفي وعقل الفقيه العالم.

•  أبو حامد محمد الغزالي الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، فقد كان فقيها وأصوليا وفيلسوفا، وكان صوفي الطريقة، شافعي الفقه إذ لم يكن للشافعية في آخر عصره مثله، وكان على مذهب الأشاعرة في العقيدة.

•  الشيخ عبد القادر الجيلاني (1077-1166 م): هو إمام صوفي وفقيه حنبلي شافعي، ومؤسس الطريقة القادرية ، وله العديد من الكتب التي تناولت تعاليم التصوف والتربية الروحية.

•  ابن العربي (1165-1240 م): كان من بين أعظم العلماء المتصوفين، ويعتبر من أبرز الفلاسفة في التصوف. قدم العديد من الأفكار المتقدمة في فلسفة التصوف.

•  مولانا جلال الدين الرومي (1207-1273 م): يعتبر من أشهر علماء الصوفية على مر العصور.

هؤلاء العلماء وغيرهم كثير على مدى التاريخ الإسلامي، مؤكد أن لديهم من العلم والمعرفة بالدين ما يمنعهم من الزيغ والضلال واتباع الشياطين والدجل وغيرها من الأوصاف التي توصف بها جماعة التصوف، أما القول بأن الصوفية بدعة وإنها لا وجود لها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان من بين أصحابه صلى الله عليه وسلم من تميز بأعمال وعبادات هي التي عليها مدار عمل أهل التصوف، فمن بين الأصحاب الذين تميزوا بأفعال تعتبر "صوفية":

•  أبو بكر الصديق: كان رضي الله عنه ، يعرف بخشوعه العميق وتفانيه في الطاعة لله، و كان يقضي وقتا طويلا في الصلاة والذكر، وكان يحرص على القيام ليلا بالصلاة والتسبيح والتهجد، وكان ميالا إلى التفكر في عظمة الله وفي عجائب الخلق و في آيات الله وسننه في الكون.

والواقع ان هذه الصفات والممارسات هي جوهر عمل اهل التصوف الحقيقي، حيث يسعى المتصوفون إلى تحقيق مرضاة الله تعالى بان يكونوا كما يراهم الله من خلال العبادة والذكر والتأمل. وعليه، يمكننا أن نرى في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، "رمزا" للتصوف الحقيقي والتفاني في العبادة والتقرب من الله.

•  عمر بن الخطاب: كان معروفا بتقواه وصرامته، كان يعتبر من القادة الروحيين في الإسلام، حيث كان يحث على التقوى والتفكر والتأمل في الله وفي الحياة الروحية (قصة إسلامه) ومن خلال هذه الصفات والممارسات، يمكننا أن نجزم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، "رمزا" للتصوف الحقيقي.

•  علي بن أبي طالب: حيث كان رضي الله عنه معروفا بزهده في الدنيا وتقديره للعبادة الخاصة بالله، وكان يسعى دائما لتحقيق القرب من الله من خلال العبادة والذكر والتفكر في الآيات الإلهية. كان يحرص على القيام بالعبادات الخاصة والنوافل والصلاة في الليل، كما كان رضي الله عنه يعيش حياة متواضعة ومتنسكة، وكان يتجنب الدنيا  (يا دنيا غرّي غيري) ، ويفضل الانشغال بالعبادة والتفكر في الأمور الروحية. كان يعتبر قربه من الله هو هدفه الأسمى في الحياة، وكان يسعى دائما لتحقيق ذلك بكل ما أوتي من قوة.

اضافة الى عبد الله بن مسعود حبر الامة وأبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد الحفاظ وغيرهم قائمة طويلة جدا لا يمكن حصرها من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، اما الائمة الكبار والفقهاء على مر العصور فيمكن البحث عن قصصهم وحديثهم عن المتصوفة والتصوف، واشهرها قصة الإمام احمد ابن حنبل رضي الله عنه ،  فمدار عمل أهل التصوف الحقيقي يشمل مجموعة من الافعال والممارسات التي تهدف إلى تحقيق الانسجام الروحي والقرب من الله، والتي تشمل في مجملها ما يلي:

•       العبادة والذكر: تعتبر العبادة والذكر اللذين يؤدونهما المتصوفين من أبرز الممارسات في مدار عملهم، حيث يقضون وقتا طويلا في الصلاة والتسبيح والتهجد، ويحرصون على ذكر الله بإخلاص وتواضع، وهو ما ينسجم مع ما تحث عليه الشريعة من حقيقة الوجود ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ).

•       التأمل والتفكر: يقوم المتصوفة بالتأمل والتفكر في آيات الله وعجائب خلقه، حيث يسعون لاكتساب الفهم العميق للحقائق الروحية، وهذ لا يتعارض مع الشريعة بل تنص عليه في أكثر من حديث وآية.

•       الزهد في الدنيا: وهو التخلي عن الدنيا وما فيها بما فيه الكفاية لتحقيق الهدف الأسمى في الحياة، وهو القرب من الله وتحقيق السعادة الروحية.

غير هذه المسلكيات الثلاثة والتي مدارها السنة والقرآن والإجماع بالنسبة للمرجعيات الروحية في التصوف يعتبر مخالفا للتصوف ولا يلزم إلا أهله ومن عمل به، فقد قال الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه في الإفادة الأحمدية: "إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع، فإن وافق فاعملوا به، وإن خالف فاتركوه"، وذلك لإدراكه أنه سيكذب عليه ويلفق الكلام عنه وغيرها من الأمور التي ليست من التصوف أصلا ولا فرعا.

في عالمنا اليوم، يوجد العديد من العلماء الذين بلغوا أعلى درجات الاجتهاد وهم متصوفون يتبعهم الناس ويطلبون منهم الإرشاد والتوجيه الروحي، من بين هؤلاء يمكن ذكر بعض الشخصيات البارزة في مختلف البلدان الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر الشيخ أباه ولد عبد الله حفظه الله ورعاه وأطال الله بقاءه فهو من العلماء الصوفية البارزين في موريتانيا، وله تأثير كبير في الدعوة إلى الله والتصوف في العالم الإسلامي، وكذلك الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله الذي كان من العلماء الصوفية في سوريا، وهناك العديد من العلماء الصوفية الآخرين في اليمن والسعودية ومصر والأردن والجزائر و مختلف أنحاء العالم الإسلامي يعرفون بتأثيرهم ودورهم في توجيه الناس نحو الطريق القويم.

عموما، تتنوع الممارسات الروحية في العالم الإسلامي بين التصوف، الذي يسعى إلى القرب من الله وتطوير الروحانية الإنسانية، وبين الطرق الباطلة مثل الدجل والشعوذة، التي تؤدي إلى الانحراف والتضليل، فالتصوف يهدف إلى تحقيق الأهداف الروحانية السامية وبلوغ المراتب العليا في مقام الإحسان من خلال الممارسات الروحية والعبادة، معتمدا على مبادئ الإيمان الإسلامي (أن تعبد الله كأنك تراه) والأخلاق السمحة، ويحث على الامتثال والتواضع والتفكر في آيات الله و يركز على البحث عن الحقيقة الروحية والسعي إلى تحقيق الارتباط بالله.

 

5. يونيو 2024 - 18:24

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا