في جو إيماني سامق وفي محيط أسري يعبق بالذكر، وتسري فيه السكينة، وينشأ ناشئ الفتيان فيه على سماع كتاب الله من أفواهِ ندية بتلاوته، وقلوبِ مطمئنة بذكره، في صحبة أنجم علم كانت ضياء للأرض وأمنة للناس... وهناك في معهد أبي تيليمت أزهر شنقيط الجامع، وزيتونتها القيروانية،ـ تكونت شحصية القارئ الماهر، والفقيه المتبصر، والنحوي الضليع: الشيخ الإمام عبد الله بن محمذن فال بن محمد احمد (الداه) بن محمود ... الذي فقدناه قبل أيام، فودعنا بفقده طرازا فريدا من أعلام النبلاء، ونمطا نادرا من الشخصيات الجامعة بين العلم والعمل، وصنوف المكرمات التي قل اجتماعها في شخص واحد فكان حقيقا بقول الأول :
فما كان قيسا هلك هلك واحد :: ولكنّه بنيان قوم تهدّما
أسرته ومولده:
في منطقة آوكار وقرب بير تِنْدا زْبير وُلد الشيخ الإمام: عبد الله بن الداه من أبوين صالحين فأبوه الرجل القرآني العابد الزاهد محمذن فال بن الداه، وأمه القارئة القانتة مريم يغنيه بنت محمد سالم ولد حامدت، وجدُّه لأب العلامة محمد احمد ولد محمود الملقب (الداه) الذي جاب البلاد شرقا وغربا وجنوبا وشمالا طلبا للعلم وتطوافا بشيوخها، فبدأ بمحاظر المسوميين في الشرق، ثم المجلسيين في الشمال الغربي، وكان مسك ختام تحصيله العلمي - الذي استمر لأكثر من عشرين سنة - يوم ألقى عصا التسيار في حضرة العلامة الولي الصالح لمرابط محمذن فال بن متالي، حيث علَّ عنده ونهل، ورَوِيَ من العلم إلى مشاشه، ولزمه حتى تخرج به وملأ عيبته من عنده . أما جده لأم فهو العلامة محمد سالم ولد حامدتُّ الملقب بدَّ، كان عالما متفننا، تغرَّب للطلب أيضا عند المجلسين، ثم الحسنيين، كما قرأ على ابن فرة الجكني، ثم صحب الشيخ سيديا باب فكان من خاصته في مجلسه العلمي.
في هذا الوسط العلمي المبارك ولد الشيخ الإمام عبد الله ولد الداه ـ رحمه الله ـ سنة 1934م، و كان وحيدَ أمه مريم يغنيه بنت حامدت وهي من النساء الصالحات الموصوفات بالجِدِّ، وعلو الهمة، وبعد النظر، فلم ترض له أن ينشأ نشأة مدللة، فأخذته بالعزم منذ نعومة أظافره، وربته تربية القادة، ونشَّأته تنشئة المصلحين.
طلبه للعلم وبدايات تحصيله:
بذلت أمه الحافظة القانتة في سبيل تحفيظه القرآن كل وقتها ووصلت ليلها بنهارها حتى حفَّظته القرآن في سن مبكرة، ثم أرسلته إلى أخيها العالم الماهر بكتاب الله أحمد باب ولد حامدتُّ ليأخذ من علمه وسمته، فلزمه زمنا يقيم بإقامته ويظعن بظعنه، فكان يسمع منه القرآن ويفقهه في أحكامه وحِكمه، فحصَّل بذلك استفادةً كبيرة، ثم رجع إلى والده محمذن فال بن الداه فتلقى عليه مبادئ العلوم، وحفظ َصغار المتون كالأجرومية، وابن عاشر، والأخضري وقرة الأبصار، ونظم الغزوات، مع المتون المتعلقة بالقرآن كالرسم والضبط ونظم الدرر اللوامع، وكان والدُه يعتني بحفظه وضبطه لهذه المتون، فكان كلما سمع منه ختمة للقرإن، أردف ذلك بسماع هذه المتون، فيتلوها عليه كما يتلو السورة من القرآن،
ثم كان معهد أبي تلميت:
وفي عام 1955 التحق الشيخ الإمام: عبد الله ولد الداه بمعهد أبي تلميت فكان المنعطف الأهم في حياته والمحطة الأعظم في محطات تكوينه العلمي، فقد كان المعهد إذ ذاك -في خمسينيات القرن الماضي ـ أكبر مركز إشعاع إسلامي في غرب إفريقيا، وقد درَس فيه الشيخ فترتين منفصلتين، مكث فيه أولاً أربع سنوات، منتظما في الدراسة في القسم الثاني من أقسام المعهد درس فيها على خيرة علماء البلد، يحدث ـ رحمه الله ـ عن برنامجه اليومي في المعهد فيقول: (كانت الحصة الصباحية مع الشيخ محمد عالي ولد عدود يدرسنا فيها مختصر خليل، والرسالة، وأم البراهين، والإضاءة، ثم الحصة الثانية مع ابنه الشيخ محمد يحيى وكان يدرسنا ألفية ابن مالك بطرة ابن بونه، والحصة الثالثة شمائل الترمذي، وبلوغ المرام يدرسهما الشيخ أحمد ولد مولود ولد داداه، والحصة الرابعة من نظم الغزوات، والحصة الخامسة المختار من شعر امرئ القيس، وفي الحصة السادسة والأخيرة يدرسنا إسحاق ولد محمد ولد باب ولد الشيخ سيديا نظم الدرر اللوامع في مقرإ الإمام نافع،) هـ وقد وجد الشيخ في معهد أبي تلميت ضالته، فأقام فيه حريصا على الطلب، مجدا في التحصيل والدأب، مقبلا على شأنه منكبا على دروسه لا يضيع لحظة في البطالة، حتى أن الطلاب يرجعون إلى المدينة في عطلة الأسبوع (لخميسه) ويبقى هو وقلَّةٌ معه في أخصاص التلاميذ، فيغتنم يومي الخميس والجمعة وينسخ ما سيقرؤه سائر الأسبوع من طرة ابن بونه.
درس الشيخ في المعهد في هذه السنوات الأربع ـ أهم متون النحو والصرف واللغة والفقه والعقيدة والسيرة وعلوم القرآن، ولزم شيوخه الكبار فحصّل العلم والأدب.
عوائق لم تقطعه عن العلم:
ثم شاءت الأقدار أن تَحْمل الظروف الشيخَ على الكسب وطلب الرزق فيمم وجهه إلى السينغال في أواخر سنة 1958م ومكث فيها عاما واحدا، يغالب شوقه للعلم وتعلقه بمجالسه حتى غلبه هذ الشوق فقفل راجعا إلى أبي تيليميت وأودع ثمرة ما حصل من رحلة عمله في السينغال عند بعض رجالات الحي ليستثمره له، ثم رجع إلى مساره الأول الذي وجد فيه نفسه وآنس فيه لذته - دَرْسِ الكتب ومجالسةِ العلماء ومباحثة الأقران - ورجع الشيخ بعزمه القديم وهمته المتوثبة متفرغا لبرنامجه العلمي غير مزاحم له بشيء من لهو الشباب ولا صبواتهم، فجمع فأوعى وحصل في زمن يسير علما كثيرا.
ثم سارت الأيام سيرها المعهود وأرادت الدولة الموريتانية الفتية إذا ذاك في سني الاستقلال الأولى أن تكتتب من فتيانها الأكفاء أساتذة يكونون أهلا للاضطلاع بمهمة التعليم فكان الشيخ من أوائل الناجحين في اكتتاب الأساتذة عام 1963 غير أنه عدل عن ذلك الطريق بِرّاً بأمه التي لم ترد له الوظيفة وندبته إلى التجارة.
تجارة لا تلهي عن العلم:
انتقل الشيخ بعد ذلك إلى العاصمة انواكشوط ففتح الله عليه و كان من أوائل تجار العاصمة، ومن أول المالكين في سوقها المركزي، ولم يصرفه ذلك عن هواه الأثير ووجهته التي ولاَّه الله إياها فلم ينقطع عن العلم استزادة، ومذاكرة، وتدريسا، بل إنه اهتبل فرصة شيخي القُطر وعالميه؛ محمد سالم ولد عدود، وبداه ولد البصيري فتوطدت علاقته بهما وشرع في الدراسة عليهما فكان يقرأ على الشيخ عدود من آخر البيوع من مختصر خليل، ويحضر دروس الشيخ بداه، وقد استجاز الشيخ بداه ابن البصيري في القرآن لِمَا رأى عنده من الاعتناء بالأداء والتحقيق في مخارج الحروف وصفاتها، فأجازه الشيخ بداه في القرآن إجازة زكَّاه فيها، وشهد له بالمشاركة في جميع فنون الشريعة.
ومكث الشيخ في العاصمة على ما كان عليه مشتغلا بالعلم وجهَ النهار وآخره؛ يفتتح يومه ـ وهو في طريقه إلى السوق ـ بدرسٍ في الكفاف على حفيد مؤلفه الشيخ سيداحمد بن أحمد يحيى، ويختم يومه بدرس مسائي من مختصر خليل على الشيخ محمد سالم ولد عدود الذي كان يجلس للتدريس بعد انتهاء دوامه الرسمي كل ليلة في بيته، فكان مثالا لوضوح الهدف ومضاء العزم والسير الواثق نحو هدفه المنشود.
أثره الإصلاحي:
في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي استقر الشيخ الإمام عبد الله بن الداه في مقاطعة بوحديدة وأسس بها مسجده جامع الأصول، فصار منارة تعليم وإرشاد، ومنبر دعوة وهداية، تخرجت منه أجيال أحبت الشيخ الإمام وتأثرت به، وعرفته نصيرا للحق، ناصحا للخلق، قوي الحجة، راجح العقل، موطأ الأكناف، ناصرا للدعوة، مبشرا بالصحوة، يجمع ولا يفرق، ويبشر ولا ينفر، ومع أنه عايش تقلبات كبيرة وتجاذبات قوية بين طوائف وفرق وأفكار ماجت بها الساحة الثقافية والدينية للبلد لكنه مع ذلك ظل على رزانته المعهودة وحكمته المتأنية غير متحزب ولا متقوقع في خندق حزبي يأخذ ويترك ويعرف وينكر في استقلال تام عن كل سلطة غير ما يمليه عليه اجتهاده في إصابة الحق، يسير في التفقه على نمط رشيد، من التمذهب يعطي الفروع حقها مع طلب الدليل وتعظيمه ولاحتكام إليه، متبعا في ذلك منهج شيخه بداه بن البوصيري، وقد كان رحمه الله آية في حب العلم لا يمل من مذاكرته، وتعليمه للناس في الجوامع والمجامع والجلسات الخاصة، وفي السفر والحضر، وكان يعلم الصغار والكبار، ممتثلا قول الله سبحانه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) . ولم يك الشيخ الإمام حبيس محرابه وكتبه لا يهتم بالشأن العام، بل كان فاعلا في مجتمعه ومن رجالاته المعدودين، وساداته المعرقين الذين يحملون الكل، ويكسبون المعدوم، ويعينون على نوائب الحق، وله في توحيد كلمة العشير، ورأب الصدع جهود مشكورة مأجورة إن شاء الله،
وفاته ـ رحمه الله:
وقد عاش الشيخ بضعا وتسعين سنة وحفظ الله عليه نعمته وحواسه، وبقي على عادته في الإمامة والتدريس، والنصح والإرشاد، إلى أن ألمت به وعكة خفيفة لم تدم غير بضعة أيام
. وفي مساء الاثنين لعشر بقين من شهر شوال عام ١٤٤٥ ذوي ذلك الدوح الرطيب، وآذنت شمس الشيخ بالمغيب، فصعدت روحه الطيبة إلى باريها لتطوى صفحة نفيسة من صفحات العلم والعمل والدعوة والبذل والتضحية وتودع الأمة طرازا فريدا من رجالاتها الأعلام الخالدين . تغمده الله بواسع رحماته وجزاه على علمه وعمله ودعوته أحسن الجزاء .