المأزق المصري إلى أين؟ / عبد الفتاح ولد إعبيدن

يوم الأربعاء الأسود الموافق 14 أغسطس2013 فض النظام الانقلابي القائم في مصر، اعتصام رابعة والنهضة بطريقة دموية، غاية في الوحشية، فقد على إثرها آلاف الرجال والنساء، وجرح الآلاف، واستمرت الاعتقالات السياسية التصوفية الضيقة إلى وقت كتابة هذه السطور.

ورغم هذه المعطيات، مازالت التصريحات لدى قيادات الإخوان تؤكد السلمية، بل يبدي البعض من المحسوبين على التيار الإسلامي استعدادا للتصالح واعتبار ما حصل بتأثير من قيادة الجيش الانقلابية، بزعامة السيسي، ولا يمكن أن يكون محل إجماع لدى الجيش المصري كله.

ولاشك أن هذا القتل المجاني الواسع، رغم سلمية الاعتصامات، قد لا يسهل تجاوزه، وقد يؤخر الوصول إلى حل سياسي حاسم، متجاوز لهذه الأزمة الخانقة.

وبعد هذه المجازر المذلة المخزية لتاريخ الجيش المصري، والتأييد الرسمي الصارم المريب من قبل السعودية والإمارات، والرفض التركي والقطري الحازم، مازال المتابع للأحداث المصرية الراهنة، يشعر بالحيرة والألم والخطر، على حاضر مصر ومستقبلها، ومستقبل كل العرب والمسلمين والعالم الثالث من خلفها، حيث ما فتئت هذه الدول تعاني من غياب الديمقراطية وتجاهل اختيارات شعوبها، والتلاعب بمقدراتهم وثرواتهم العمومية.

وستبقى الأوضاع في مصر مشغلة، للعرب على وجه الخصوص، وبوجه خاص الراغبين في درء الاستبداد والتقدم نحو غد أفضل، لأن فشل الربيع العربي في مصر مقدمة خطيرة لفشله في بقية بلدان الوطن العربي، بحكم ريادة مصر في العالمين العربي والإسلامي.

ولكن قوة وتجذر الاتجاه الإسلامي في مصر وسلميته، خصوصا " الإخوان المسلمون" يجعل المشروع الإقصائي في مصر صعب الإنجاز والاستمرار.

لقد أظهرت المحنة الراهنة في مصر، ضيق الأفق والحنق والحقد لدى شرائح واسعة من العلمانيين، وخصوصا في قطاع الإعلام.

حيث تحولت الكثير من القامات الإعلامية والعلمية، والشخصيات المحسوبة على الثقافة والفن إلى هذا الحد من كراهية الآخر والتحامل عليه، بل والدعوة لتصفيته جسديا، على غرار ما حصل أمس من تصريح مسجل، منسوب لمفتي جمهورية مصر العربية السابق علي جمعة، عافاه الله!.

لقد عجزت السلطة المدنية والعسكرية القائمة ، عن كلمة ترحم على آلاف الشهداء في الميادين المختلفة والأحداث الدموية المتصاعدة.

والكثير من أدعياء الديمقراطية،لم يستطيعوا الخروج على أسر مشاعر الكراهية، فلم يرحموا ولم يترحموا على أبناء جلدتهم، الذين ظلموا وقتلوا وسحلوا وحرقوا أحيانا..يا سبحان الله!!!.

أين الأنفة العربية، أ ين أخوة الإسلام، أين الإنسانية علة الأقل؟!.

قتل المسالمين، وحرق الجثث، و حرق المساجد، كل هذا ترك في نفوس المتابعين، في الداخل المصري، وخارجه آثارا قد لا تندمل ببساطة، إنها مجازر مروعة و مؤلمة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

فحين هزم بعض العلمانيين في النزال الانتخابي المتكرر، لجأوا إلى الجيش والإعلام لإشفاء الغليل، والدعوة للإقصاء الكامل، بل والتصفية الجسدية، بحجة أن الخصوم إرهابيين وخوارج، وتدخل فريق فقهاء السلطان، بقوة لصالح العسكر والمؤيدين للانقلاب.

إنه التيه والضياع.

إنه جو قد يمنع استرجاع الثقة حاضرا ومستقبلا في سلمية العملية السياسية عموما، فمن باب أحرى ما يسمى الديمقراطية أو الاقتراع الانتخابي بوجه خاص.

ورغم مأساوية هذا المأزق المتواصل، فإن جميع الأطراف ستجد نفسها مضطرة للتحاور يوما ما، والبحث عن مخارج سلمية، بعيدة عن لغة العنف والإقصاء والتنا بز بالألقاب والاعتقال التعسفي.

إن ساحة الشأن العام المصري تسع الجميع، إسلاميين وعلمانيين، مهما حدث، ولا مناص من الوصول لمحطة التعايش السياسي السلمي، مهما كانت الهزات وردات الفعل.

ولا بد للديمقراطية المصرية، أن تصبر الضربات وتتجاوز المحن، لأن ما سوى ذلك لن يقبله عقلاء الطرف الإسلامي خصوصا، الحريص جدا على السلمية.

وإن توجهت الأحداث إلى مصب آخر، وهو احتمال غير مستبعد ـ في حساب البعض ـ بحجة المسار الدموي المصري الراهن، فمعنى ذلك دخول الوطن العربي كله، وليس مصر وحدها، في شعاب الفتن والصراعات والمجهول، للأسف البالغ، لا قد الله.

لقد أثبتت الأحداث الجارية في مصر، أن كثيرا من المصريين بعيد من مفهوم التداول السلمي على السلطة وقبول الآخر، ولعل هذا هو حال العرب في الكثير من التجارب، التي أثبتت صعوبة تقبل المجتمع العربي، لنموذج ديمقراطي حقيقي، محل تنفيذ واستمرار.

ومن المثير للتخوف ـ رغم سلمية الإخوان ـ أن تفجر دماء رابعة العدوبة، والنهضة، والنصب التذكاري، والحرس الجمهوري، وغيرها من المواقع الملحمية المحزنة، غضبا قد لا تهدئه المواعظ وتوجيهات الرشداء.

لأن الظلم يولد ذلك أحيانا، والدم يستدعي الدم، فيصبح من الصعب كبح الجماح، ولجم تحرك المحروقين الناقمين من تسلط سياط الظالمين الغاشمين.

إن جرائم "السيسي" لايمكن مقارنتها بما فعل عبد الناصر أو السادات أو مبارك ضد الإخوان ، رغم شناعة هؤلاء الحكام.

إن مصادرة الرأي والصوت والكرامة والحرية عبر الدبابة والمدفع، مسألة قد لايصبر عليها الأحرار الشرفاء، وهي أثقل من الجبال الشم الرواسي.

لقد مثل الإخوان وحلفاؤهم المثل الأعلى في الإصرار على حرية الشعب المصري، وحرية كل الشعوب العربية والإسلامية المقهورة من ورائه.

ولوقت غير قصير ستبقى النفوس مشدودة إلى الساحة المصرية ، لمعرفة مصير أكبر أزمة مرت بها مصر، إثر نكسة 1967.

في جو حالك ، يطبعه القتل والاعتقال المجاني، و التنابز بالألقاب والكراهية الشديدة من قبل الانقلابيين ضدَ أنصار الشرعية الدستورية ، وتهم الإرهاب الموجهة باستمرار،للإخوان المسلمين من قبل هؤلاء العسكر وأشياعهم.

وقد يكون الأولى والأنفع للجميع، التوجه لطاولة الحوار، لتجاوز هذا الحنق والتوتر والتصعيد.

لقد شهدت الأحداث بمصر، بعد انقلاب 2 يوليو2013، بهشاشة الخيار الديمقراطي في تصور النخب العلمانية المصرية، والقيادة الحالية للجيش المصري، مما يلقي ظلالا مخيفة ، على حاضر ومستقبل التعايش بين مختلف مكونات الشعب المصري العزيز، بعد أن لم يكن لصندوق الاقتراع حرمة ،رغم الإجماع على سلامة نتائجه، التي أوصلت الإسلاميين إلى الحكم.

كما علمتنا الأزمة المصرية ، ضرورة توسيع دائرة التحالف، عسى أن تتعزز لحمة الإجماع النسبي على خيارات المشهد السياسي المتغلب انتخابيا، لإبعاد شبح الانقلابات والصراعات الدموية، بعد انفراط العقد والقفز التلقائي على أصوات الناخبين.

فلا يمكن إقامة دولة على لون أيديولوجي واحد، مهما كان نقاؤه وزخمه الشعبي والانتخابي الشفاف، لأن ذلك خلاف سنة التنوع في الواقع السياسي البشري الملموس.

قال تعالى:

"وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا".

فمراعاة الاختلاف في الرؤى والمصالح، من أهم أساليب الحكم السياسي المستقر، وهو أهم درس رشح بوضوح وقوة من المشهد المصري المقلق، والمشهد التونسي المهتز، الذي ربما ينقذه بعض سعته وانفتاحه، على المخالفين أيديولوجيا، للطرح الإسلامي المعروف مدرسيا( مدرسة الإخوان والحركة الإسلامية عموما).

ولنتأمل أكثر، لنستفيد مما حدث في مسرح إخواننا المصريين، الذين حسب بعضهم، أن العلمانيين والليبراليين والعسكر المهزومين انتخابيا ، سيسلمون تلقائيا للهزيمة الواقعة عيانا.

لقد كان أنسب للإسلاميين، أن يتحالفوا مع جزء من الطرف المهزوم، ابتغاء للاستقرار والهدوء النسبي، محاولة لتجاوز الزوبعة المدمرة، التي كادت أن تقضي على البلد كله، في أشهر معدودة، ومازال خطرها مستمر، يستدعي الكثير من الحكمة والتعقل والفعل الإيجابي الجامع.

وفي هذا الجو من التحامل المستمر على فصيل إسلامي أصيل، أثبت وجوده عبر الانتخاب الحر النزيه،تتكرس الحيرة في مصير هذه الدولة العربية الإسلامية المركزية، جمهورية مصر العربية، في انتظار إدراك الطرف المتغلب عسكريا، لضرورة التعقل وفتح باب الحوار والتفاهم السلمي، بعيدا عن التصفية الجسدية والاعتقالات السياسية التعسفية، والتصعيد المتنوع المتواصل.

ولا مناص البتة من سلوك هذا الطريق التفاوضي يوما ، ما كما قلت آنفا وأكرر، لأن تنازل الأطراف بحيز نسبي توافقي، على غرار صلح الحديبية أفضل من تدمير البلدان والعصف بمصير الأمة كلها.

فاغتصاب السلطة والدعم الصهيوني والأمريكي، مع رفض شعبي عارم متزايد متوسع، لا يكفي لحسم الملحمة المصرية المثيرة، دون قبول الأطراف المصرية كلها لمخرج الحوار والتفاوض المباشر ،بعيدا عن الثكنات والميادين، على رأي البعض.

فهل يستوعب العسكر المصري الدرس قبل فوات الأوان، وسقوط الاقتصاد أو انقلاب الأمور إلى مسارات أخرى، غير مأمونة على بقاء مصر متماسكة !؟.

والوقت ليس في صالح الجميع، الذي قد يدخل فيه مصير مشروع الربيع المتعثر، وكذلك مصير العالم كله، لحساسية منطقة الصراع المذكور.

إن ما يجري في الشارع المصري يوميا من رفض شعبي، وما يجري في سيناء، كله مؤشر لمجهول قادم، ينذر بخطر محدق، إذا لم يجلس الجميع إلى طاولة الحوار، والحوار وحده.

اللهم أحفظ أمتنا ، واحقن دماء المصريين وسائر المسلمين، وقرب ووافق، اللهم آمين.

9. أكتوبر 2013 - 22:23

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا