الوطنية حسب تعريف الثورة الهولندية (1787) هي" إظهار الحب للبلد من خلال الرغبة بالإصلاح والثورة" وحسب تعريف "هارت"، الوطنية هي: "حب الإنسان لبلاد، وولاؤه للأرض التي يعيش عليها".
و الوطنية هي بتعريف أعم و شحنة من الكثافة في المعنى "شعور عاطفي بالحب للبلد أو الإقليم الذي يعيش عليه الفرد" فيما تختلف القومية عنها بأنها تتقيد بالحب "للأمة" التي ينتمي إليها الفرد بغض النظر عن الإقليم الذي تعيش فيه هذه الأمة، لأنها لا ترتبط بوجود الإقليم.
كيف ننظر إذا إلى الوحدة الوطنية "مفهوما" و "سعيا عمليا" من خلال ما يتضمنه "متن" خطابات و برامج أحزابنا السياسية على اختلاف تشكيلاتها و تباين وجهة فلسفاتها و مواثيقها، في ظل ضعف الوطنية شعورا عاطفيا جياشا و ولاء يقينيا ثابتا من ناحية، و في ظل استعصاء مفهوم الدولة على عقلية المجتمع المشوشة بظلال الماضي الثقيلة و رعونة الحاضر الأعشى و ضبابية المستقبل المنظور من ناحية أخرى؟
فهل تتراءى لنا إذا الوحدة الوطنية بأعين أحزاب الأغلبية بألوان طيفها القزحي:
· فيما ذهب إليه "هوبز" من أنها سيطرة الدولة وزيادة مقوماتها من خلال الحكم المطلق الذي سيسهم في إضعاف المناوئين لها أو المنافسين لها في مقابل أن يكون من واجب الدولة غرس صفات الولاء وحب الوطن عند الأفراد عن طريق برامج التعليم والتدريب والتوجيه السياسي.
· أو ما آل ليه "مكيافيللي" من أنها ارتقاء الحاكم في الدولة إلى درجة القداسة، لأنه محور الوحدة الوطنية في الدولة ، وإذعان المحكومين لهذا الحاكم وخشيته من ضرورات هذه الوحدة ، لأن الأخذ بآرائهم سيؤدى إلى الفوضى والاضطراب ، لأنهم لا يمكن أن يكونوا طيبين إلا إذا اضطروا لذلك.
· أو بما رأى أبو حامد الغزالي من أن الوحدة الوطنية تتحقق من خلال الحاكم (الإمام)؛ لأنه هو أساس وحدة الأمة ، وأنه محور اتفاق الإدارات المتناقضة ، والشهوات المتباينة المتنافرة من خلال جمعه لها حول رأى واحد ، بسبب مهابته وشدته وتأييد الأمة له من خلال تعاقد سياسي بينهم وبينه على شرط أن يقوم هذا التعاقد على الرضى لا على الإكراه، وهذا سيؤدى إلى القضاء على التشتت والتضامن في الجماعة من أجل السلطة. و بأعين أحزاب المعارضة المتباينة الطرح و المتناقضة الرؤى من خلال:
· منطق "روسو" الذي يرى أن الوحدة الوطنية هي قيام عقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي القائم، بحيث يتوحد الشعب في وحدة قومية مصيرية، وفى إطار من مسؤولية مشتركة يطيع فيها الفرد الحكومة ، التي هي نظام اجتماعي ارتضاه عن طواعية واختيار، والربط بين السيادة في توحيد الشعب وقيمه ، والتعبير عن إرادته المندمجة في الإدارة العامة و أنها تعبير عن الوطنية التي تستند إلى القيم والمثاليات، وتقترن هذه الوحدة بالديمقراطية من خلال حكومة ديمقراطية يستطيع الشعب في ظلها أن يجتمع ، وأن يتمكن كل مواطن من التعرف على غيره من المواطنين.
· أو بما جاء به تعريف "رينان" بأن الوحدة الوطنية هي الاشتراك في تراث ثمين من الذكريات الماضية مع الرغبة في العيش المشترك والحفاظ على التراث المعنوي المشترك والسعي لزيادة قيمة ذلك التراث، و هو التعريف الذي يتراءى من خلالها أن الوحدة الوطنية تتمثل في أمرين أولهما يتعلق بالماضي، والآخر يتعلق بالحاضر، أي أنها قيم روحية وأخلاقية قبل كل شيء ، لأن الوحدة الوطنية تظهر في الأمة التي تشترك في أمجاد الماضي من ناحية، ورغبات الحاضر، وآمال المستقبل من ناحية أخرى، كما أن الآلام المشتركة تربط وتوحد الأفراد أكثر مما توحدهم الأفراح المشتركة.
· أو فيما يقول "ماتزينى" بأن الوحدة الوطنية هي وعي المحكومين جميعاً بانتمائهم للأرض التي يعيشون عليها واتحادهم وارتباطهم بها.
و بأعين المناضلين الفاعلين أدعياء و مخلصين في الأطر الحقوقية:
· فيما يقول "انكل" من أنها نوع من التكامل التفاعلي المستمد من علاقات التأثير والتأثر المتبادل بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها ، وبين الجماعات بعضها مع البعض الآخر، والمستمد من كل ما من شأنه أن يزيد من تماسك الأفراد والجماعات ويدعم تضمانهم الداخلي.
و ما يذهب إليه "بلاك" بأن الوحدة الوطنية هي البوتقة التي انصهرت فيها القوميات والجماعات الثقافية ذات اللغات المتعددة.
· أو من خلال ما يرى "لينين" من أن الوحدة الوطنية هي تحقيق المساواة التامة في الحقوق بين الأمم، وحق الأمم في تقرير مصيرها، واتحاد عمال جميع لأمم.
و هل أن مفهوم الوحدة، في جوهره، غير مُدرك الأبعاد بالنظر إلى قرب عهد البلاد باللا "دولة مركزية" و بأنماط من التعايش كانت فيه غريزة البقاء - المجبولة في خلفيتها على حب الهيمنة - أقوى من غريزة الشراكة بـ"التقاسم و التكامل" حتى أطلق على جانب من رصد ماهيتها و استنباط طبيعتها بناء على واقع أمرها "بلاد السيبه" أو "البلاد السايبة" لانعدام مقومات الوحدة و اللحمة و غياب خلفية "تقاسم المصير" و بناء "الكيان الجامع" في حيز مشترك من ناحية، و كذلك بٌعدها عن سياقات تاريخية مترابطة بنجاحاتها و إخفاقاتها و ممتدة عبر الحقب صهرتها في بوتقة واحدة و خلقت لها لغة حضارية مشتركة من ناحية أخرى.
و لا شك أن معجزة قيام الدولة الموريتانية على أيدي المستعمرين الفرنسيين، بعيدا عن مفهومي الوطنية و الوحدة المصيرية، لم تتكرر مرة ثانية لصالح حراك حزبي محموم و تعاط سياسي ارتجالي و سطحي دون المستوى، فرضته على "الدولة المعجزة" أو "الدولة الصدفة" مقومات الحداثة و ضرورات و إكراهات سير الركب ألأممي إلى العولمة.