الانقلاب الأخير / المختار الجيلاني

كان الانقلاب على الدوام جزءا من ثقافة المجتمع الموريتاني منذ أن ألف حياة الترحال والانتجاع في هذا المجال الفسيح الغني بالتنوع، الذي يقع معظمه ضمن الأراضي الموريتانية الحالية. ومنذ أن شرع  الموريتاني في التصالح مع فكرة الدولة والتأقلم

 مع متطلبات المدينة، لم تزده المعطيات الجديدة إلا إمعانا في عادة التحول السريع والانتقال الدائم من أقصى الشيء إلى أقصاه، ومن الأمر إلى خلافه، وربما إلى نقيضه، دون شعور بالحرج. ترى ذلك بمنتهى الوضوح في الهجرة إلى المدينة والهجرة إلى الخارج وفي سهولة تغيير الحكم والمهنة والزوج وتبديل الحزب السياسي إلخ.

في المقابل، لم تكن الثقافة في يوم من الأيام جزءا من عادة الانقلاب هذه؛ فعندما كان المستعمر يطبق سياسة فرض التعليم الفرنسي ومحاربة التعليم العربي المحظري، كان المجتمع الموريتاني حريصا على استخدام  كل الوسائل المتاحة، المباشرة وغير المباشرة، لتحقيق إرادته في رفض التعاطي مع السياسة الثقافية للإمبريالية الفرنسية، والصمود في جبهة الصراع الثقافي حتى وإن تهاوت كل الجبهات الأخرى.

وقد تهاوت كل الجبهات، إما بالقمع وإما بالتآمر، وقامت الدولة تباعا، لتجد المقاومة نفسها فجأة بدون مبررات. ثم جاء التعليم الوطني الذي سرعانما تبين أنه لم يكن أكثر من نسخة رديئة من التعليم الفرنسي؛ لم يجر تكييفها مع الاحتياجات الحضارية والسوسيولوجية الوطنية، ولم تحترم المكونات المحلية الإثنية واللغوية والتاريخية والدينية لشعب الدولة الوليدة، ولم تنتج في النهاية غير طبقية وخيمة لا تزال تترسخ، مسببة حالة قلقة من الانفصال بين الإدارة والشعب، وبين الشعب ونفسه، واحتكار الوظائف والمناصب لصالح فئة متفرنسة دأبت الأوساط المحلية على اتهامها بالموالاة للاستعمار، وبتواضع مستوى الإيمان بالدولة الوطنية لديها، وتحميلها مسئولية فشل "مشاريع التنمية" أو ما وجد منها حتى الآن.

لم تتهاو الجبهة الثقافية في هذه البيئة الطاردة لكل ما هو غير فرنسي، برغم حالة التضييق والتهميش والغبن والاقصاء التي فرضتها ضد رموز الثقافة العربية من فقهاء وشعراء وكتاب، ومن بسطاء الموظفين وحاملي المؤهلات من الجامعات العربية. ولعل شهرة موريتانيا في العالم العربي بأنها بلد مليون شاعر، أوضح شاهد ودليل على انتصار الثقافة العربية في موريتانيا منذ أواخر العقد الأول بعد الاستقلال، في المحافظة على صرحها في وجه الاستعمار الثقافي الفرنسي، ومضيها دون هوادة في الإسهام في صناعة المنتج الثقافي العربي حاملا العلامة "التجارية" للشناقطة، العلامة المميزة التي يعز تغييبها.

إن الإرادة الحرة والأصيلة للثقافة العربية في موريتانيا، هي التي مكنت الموريتانيين من إنجاز ما لم يستطيعوا الوصول إليه في السياسة والرياضة والاقتصاد. غير أن استمرار الضغوط والإغراءات الساعية إلى كسر هذه الإرادة أولا، والعمل على إفراغ المنتجات الثقافية العربية من محتواها الإنساني والجمالي ثانيا، إلى جانب حالة الجمود التي تشهدها الحركة الأدبية بشكل طبيعي ثالثا، كان على ما يبدو، تمهيدا ممنهجا لإشاعة حالة من الامتهان والازدراء قل من يحمل الجرعة (وربما الجرأة أيضا) الكافية من الصبر والثقة في الذات، لمواجهتها والصمود في وجهها. ومن هنا رأينا في الآونة الأخيرة من بين الرموز الوطنية للثقافة العربية من تناسوا مبادئهم ومسئولياتهم التاريخية واتخذوها وراءهم ظهريا، وراحوا يتسقطون الرزق من ذات الأكف التي تلوثت بدماء المقاومين الشرفاء، تحت ذريعة التواصل الثقافي، من خلال الكتابة باللغة الفرنسية، والانخراط في جمعيات أدبية فرنسية بموريتانيا، والمشاركة في أنشطة أدبية ترعاها السفارة الفرنسية بانواكشوط، في انقلاب ثقافي غير محسوب وغير مسبوق وربما لا يكون متبوعا.

لا يجادل أحد في جدوى التواصل الثقافي والحضاري بين الشعوب، لكن الأجدى من ذلك تطوير التعاون في مجالات الاقتصاد والتصنيع والبحث العلمي. فإذا كانت مصلحة فرنسا تقتضي البدء بالتواصل من أجل القفز على أكتاف الثقافة العربية بهذا البلد، لإسماع الصوت الفرنسي وإلحاق شعرائه بقائمة المليون شاعر، فإن مصلحة موريتانيا تقتضي الدخول الفوري في شراكة جادة تعينها على الخروج من حلقة الفقر والتخلف. وإذا كان مدار الأمر على الحقوق والأخلاق، فإن مسئولية المستعمر السابق تجاه الدول حديثة النشأة التي بنى من نهب ثرواتها الوطنية نهضته الصناعية، تظل حقيقة لا يمكن تجاهلها. 

 

المختار الجيلاني أستاذ اللسانيات بجامعة انواكشوط

18. أكتوبر 2013 - 11:36

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا