في الوقت الذي يبدأ العد التنازلي لانتخابات الثالث والعشرين من نوفمبر القادم يُلاحَظ أن أحزاب المعارضة ـ سواء المشارِكة منها في الانتخابات أو المقاطِعة ـ منتشية بفعل الثقة في ولاء الناخبين؛ اتكاءً منها على حصاد ثلاثة أعوام من التصعيد ضد النظام الحاكم وكشف ملفاته المثيرة للرأي العام.
فالمتتبع للجدل الدائر بين النخب السياسية المعارضة حول الانتخابات البلدية والتشريعية القادمة يلاحظ أن ترادفًا في دلالات مفاهيم: "نزاهة الانتخابات" و "اكتساح أحزاب المعارضة لأصوات الناخبين" يكاد يسيطر على هذا الجدل؛ رغم سقف الطموح العالي الذي يعبر عنه.
وإذا كان هذا الترادف المتبادر إلى الأذهان بعد تحليل رؤى وأطروحات أحزاب المعارضة بكافة أطيافها لا يعبر بالضرورة عن التفسير الحقيقي لمصطلح: "نزاهة الانتخابات" كما تراه المعارضة.. فإن خطابها الشعبي والنخبوي - على حد سواء - يحيل إليه بشكل مباشر؛ لدرجة لا يمكن معها تجاوز هذه الملاحظة.
ولعل إصرار أحزاب المنسقية على مقاطعة الانتخابات ومطالباتها للسلطة بتقديم ضمانات حقيقية لنزاهة العملية الانتخابية؛ تدفعها إلى ذلك تجاربها السابقة، كما تدفعها إليه نخب شبابية واسعة؛ يعكس ـ في بعض أبعاده ـ مستوى كبيرًا من الثقة ـ لحد الغرور ـ في ولاء الناخبين.
لا نريد هنا أن نقلل من شأن طموح أحزاب سياسية خبرت الساحة السياسية عقودا من الزمن وتبدل بها المطاف من موالاة إلى معارضة ومن معارضة إلى موالاة، لكنه من غير المقبول أيضا أن نبقى رهائن تفسيرات سطحية للعملية السياسية، متجاهلين العوامل ذات التأثير الحقيقي باعتبارها الموجّه الفعلي لأصوات الناخبين.
إن إلقاء نظرة بسيطة على الحراك السياسي الذي تشهده الساحة قبيل الانتخابات سوف تُقدم لنا معطيات في غاية الأهمية، وقادرة على تقديم تفسيرات شبه متكاملة؛ رغم أنها بحاجة لقراءة وتحليل مستفيض للوصول إلى نتائج مجسّمة يمكن أن تستفيد منها المعارضة الساعية للسلطة عبر الانتخابات.
فأمام المواسم الانتخابية لا يمكن تجاهل دور الكتل الاجتماعية والقبلية التي تشتبك في تحالفاتها البينية مع رجال السلطة والنفوذ ورجال المال والأعمال؛ فهي تمثل خزانات انتخابية لا نبالغ إذا قلنا إنها تجمع أصوات أكثر من ثلاثة أرباع الناخبين في المجتمع الموريتاني.
والحقيقة أن كل الماسكين بمفاتيح هذه الخزانات الانتخابية هم ـ بالضرورة ـ تجار، والناخبون رؤوس أموال، والتاجر بطبعه يفضل الاستثمار في البيئة الأوفر حظا للربح والأبعد عن الخسارة؛ وقلّما يغامر بالابتعاد ـ سياسيا ـ عن السلطة الحاكمة.
هذا فضلا عن أن "الأعماقيين" لهم زاوية أخرى يقرؤون من خلالها الانتخابات؛ فما هي ـ في نظرهم ـ سوى لعبة ترفيهية، وهم يفضلون أن يكونوا من أنصار ومشجعي الطرف ذي الحظوظ الأكبر في نيل الفوز؛ لذا يمنحون ولاءهم الكامل، وبالتالي أصواتهم في الانتخابات لأصحاب النفوذ؛ فتجد طريقها المباشر لصالح حزب السلطة.
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل بجدّ؛ هل تضمن نزاهة الانتخابات فوزَ المعارضة؟ّ! وانطلاقا من محورية دور الكتل والأحلاف الاجتماعية ورجال النفوذ والمال في توجيه أصوات الناخبين، فإن الإجابة بـ: "نعم" ستتضمن ـ دون شك ـ مغالطة كبيرة!
قد يقول قائل إن مفهوم "نزاهة الانتخابات" التي تطالب بها أحزاب المعارضة ـ مشارِكة ومقاطِعة ـ يشمل وضع قوانين تجرّم شراء الذمم وتمنع ممارسة الضغوط للتأثير على أصوات الناخبين..
لكن بأي قانون يمكن أن نُلجم "الأعماقيّين" عن منح أصواتهم لمرشحي السلطة؟ّ! وكيف يتم تجريم الكتل والأحلاف الاجتماعية وثنيها عن استثمار خزاناتها الانتخابية في السوق الأكثر رواجا: "الحزب الحاكم"؟!
لا شك أن السعي لقلب المعادلة من خلال جلب ولاء الخزانات الانتخابية ـ فضلا عن أنه غير ممكن، رغم رهان بعض أحزاب المعارضة عليه ـ ليس هو الأسلوب الأمثل لمعارضة طالما انتقدت الأنظمة باتباع أساليب غير شريفة لكسب أصوات الناخبين؛ إذ يعكس ذلك خللا في الوعي السياسي لدى الشعب، وهو أحوج إلى علاجه منه إلى التنافس على الاستفادة منه كمأساة. من هنا فإنه يتوجب على المعارضة أن لا توغل في الثقة بولاء الناخبين ـ مهما كانت جادة في إصلاح الوطن ـ فتربط بين نزاهة الانتخابات وبين الفوز فيها؛ إذ لا يعني اكتساح الحزب الحاكم للانتخابات البلدية والتشريعية، ولا فوز الرئيس أو مرشح السلطة في الانتخابات الرئاسية دليلا قاطعا على أن الانتخابات تم تزويرها!
بدون بناء وتنمية وعيٍ سياسي حقيقي للشعب الموريتاني لا يمكن الحديث عن تغيير ـ ولو عن طريق الانتخابات، رغم أهميتها كحدث سياسي له نتائجه وتبعاته ـ للنظام العسكري وبناء نظام ديمقراطي مختلف. هذا مع تقدير واحترام مواقف أحزاب المعارضة المشارِك منها في الانتخابات والمقاطِع.
إن الأولوية بالنسبة لمعارضتنا الموقرة ـ في الوقت الراهن ـ ينبغي أن تتمثل في نشر الوعي السياسي.. ومسارُها التاريخي حافل بالعطاء في هذا المجال؛ فالفضل في الوعي السياسي المتنامي لمجتمعنا ـ وإن كان لا يزال ضعيفا ـ يعود إلى نضال المعارضة. ولا يمكن للموالاة أن تمن عليه بنصيب في ذلك؛ فجهودها ـ هي الأخرى ـ في تكريس الأمية السياسية محفوظة للجميع.