القبيلة وأخواتها في الإسلام / المهدي بن أحمد طالب

يقرر حكماء الفلسفة وروادها طابع المدنية بالاجتماع البشري ويعبرون عن هذا الدافع بأنّه ضرورة لا تستقيم الحياة - على شكلها الطبيعي - دونها، كما ينظر علماء مقاصد الشريعة الإسلامية إلى هذا المفهوم بأنّه أحد المفاهيم التي دعت الشرائع - السماوية - إلى المحافظة

 عليه وتجنب الوسائل المؤدية إلى انقطاع النسل البشري أو الاعتداء عليه بغير حق شرعي. ومن المقرّر - أيضا - في أدبيات علم الاجتماع والعمران البشري بأنّ وُجود أي تجمع بشري لابدّ وأن يخضع لنظام يحمي الفرد وخصوصياته وينظّم علاقته بنفسه وعلاقته مع غيره، وهذا القانون لا يتأتى إلا إذا كانت هناك سلطة مركزية يخضع الفرد والمجتمع  لكل ما تمليه من قرارات وإلا فإنّ عِقد الحياة سينفرط ويطغى مفهوم شريعة الغاب على النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مما سيعطي نتيجة سلبية تودي بالجميع إلى الاندثار والانقراض.

القبيلة أو العصبية كما يحلو لعالم الاجتماع والسياسة عبد الرحمن بن خلدون هي أول نظام بشري عرفه الإنسان الأول وسيطر على فكره، سواءٌ في هذا من استخدم هذه العصبية للخير أو الشر.

وحتى لا نبتعد بالقارئ - الكريم - نقول إنّ ظاهرة القبيلة ارتكزت في ذهن الإنسان العربي وارتبطت به منذ جاهليته الأولى واتسمت بالكثير من الضبابية، سببها غريزة حب الذات والانتقام وغياب  قانون مُوحد يجعل الأقوياء وعِلية القوم يخضعون له كما يخضع له الضعفاء وبسطاء النسب.

وبعد بُزوغ فجر الإسلام في جزيرة العرب تغير مفهوم القبيلة شيئا فشيئا بحيث أصبح نفوذها السياسي يعمل في زاوية ضيقة لا يخرجها - غالبا - عن السعي إلى الصلح بين المتخاصمين ودفع ما يترتب على العصبة من دية أو إرش جناية - في حالة العجز البدني أو العقلي - أو حماية لعرض انتهك ظلما أو عُدوانا.

كما سعى الإسلام إلى استحداث نظام سياسي شرعي اجتماعي ينضاف إلى مفهوم القبيلة وهو العاقلة، ذلك أنّ حدود القبيلة يسع  الكثير من الأفراد والجماعات ويصعب ضبطه في الحالات الطارئة التي تستوجب السرعة، وكان هذا المفهوم هو العاقلة التي تُعصّب الرجل وتحمي ظهره حسا ومعنى.

وقد شاع وانتشر في أدبيات العرب في جاهليتهم الاعتداء على الغرباء وأبناء السبيل وحتى أبناء القبيلة والأسرة، مُستثنين - والحالة هذه الحالات الفردية - التي صدرت من حاتم الطائي وأمثاله ممن يسعون إلى اكتساب المجد والتباهي به في النوادي، ومما يدل على كلامنا سعي النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى كسر الحواجز النفسية والاجتماعية التي تنظر إلى الغرباء بعين الريبة والحذر بقوله - كما جاء في معجم الطبراني الكبير - «سلمان منّا أَهل البيت» وهذا الموقف القائم على الروابط الدينية والأخوة الإيمانية يجعل النعرات الذاتية والقوميات الأنانية تتراجع شيئا فشيئا حتى تبقى على أصولها ومقوماتها بحيث لا تصطدم مع جوهر الدين وقيمه السامية التي تطغى على جميع المفاهيم الوضعية.

إنّ القبيلة ليست شرا محضا ولا خيرا محضا، ذلك أنّنا حين ننظر إلى جانبها الإيجابي نجدها قد حلّت الكثير من المشاكل وتجاوزت  الكثير من الخلافات الضيقة بحكم  الحمية النسبية، كما أنّها حافظت على  حفظ الأنساب وهي بهذا تلبي مقصدا حاجيا وضروريا دعا له الدين وسعى  إلى تحقيقه ومُستند هذا القول ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - أنّه قال « تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أَرحامكم، فَإنَّ صلةَ الرحم محبة في أهله، مثراةٌ في  ماله، منسأَة في أَثره» وروى البخاري في الأدب المفرد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه قال (تعلّموا أَنْسابكم ثُمّ صلوا أَرحامكم واللَّه إنه ليكون بين الرجل وبين أَخيه الشيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرَّحم لأوزعه ذلك عن انتهاكه)، وقد قرن الله - تعالى -  قطيعة الرحم بالفساد في الأرض ورتّب اللعنة على ذلك بقوله " فهل عسيتم إن تولّيتم أَن تفْسدوا في الأَرض وتقَطِّعوا أَرحامكم أُولئك الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " ومن المقرّر في أذهان الأصوليين  أنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ومعرفة  الأنساب والأصهار يحصل من خلالها  ويتأتى الواجب العيني وهو صلة الرحم، وكل هذا  يندرج تحت المحتوى  الرئيسي وهو القبيلة مع استثنائنا للحالات الفردية والنادرة التي تحصل في أرض العجم على اعتبار مفهوم الشعوبية الذي يحل محل مفهوم القبيلة عند العرب، ومقصد الشارع - الحكيم - في هذا كله هو تحقيق معنى التعارف  الذي به يحصل لازم الإيمان  وهو الأمن والسلام.      

والجانب السلبي لمفهوم  القبيلة يندرج تحته الكثير من الظواهر السلبية ذات الطابع العنصري والقومي، الذي يسعى إلى تكريس مفهوم الطبقية على أساس يرجع إلى الجنس البشري أو اللون أو اللغة، وهذا النوع من الظواهر يعد إحدى جاهليات القرن العشرين التي حاربها الإسلام في عهده الأول أيام كانت العرب تنظر إلى من سواها بأنهم خلقوا من أجلها، وهذا لم يكن شائعا عند العرب وحدهم، بل وُجد عند فارس والروم والهند أيام طغيان عقل اللاوعي، على العقل المفكر المدرك لمعنى الاستخلاف القائم على التكافل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين بني البشر بغضّ النظر عن الأبعاد اللاإرادية التي لا دخل للبشر فيها.

إنّ التنوع البشري يجب أن يستخدم في الجانب الإيجابي وأن ينظر الناس بعضهم إلى بعض على أساس الضرورة الاجتماعية لا على الجانب الكمالي والتحسيني، والقبيلة من هذا الجانب - مهما على شرفها وحسبها - عليها أن تُدرك أنّها غير قادرة على الحياة بمفردها على الأرض دون مساعدة الآخرين، وهذا النقص يجعلها تتنازل شيئا فشيئا عن برجها العالي القائم -على الجانب المعنوي- إلى الطبقة المسحوقة التي ظلمها التاريخ أيام طغيان عقل اللاوعي والتي وفّرت لنفسها الكثير من الحاجيات الضرورية وسمت بنفسها إلى مراتب الكمال البشري بدل العيش في أوهام التاريخ المنسوجة في أغلبها من الخيال.

إنّ العلاقات الاجتماعية في الإسلام قائمة على أساس التقوى والقرب من  الله لا على أساس الطينة البشرية التي يستوي الجميع  في أصلها، ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام - كما جاء في مستدرك الحاكم «إذا أَتاكم من ترضون خلقه ودينه، فانكحوه، أَلّا تفعلوا تكن فتنة في الْأَرض وفساد عريض» وهذا المفهوم يبطل جميع المفاهيم الأخرى التي كان الناس في جاهليتهم الأولى يقدّمونها وهو حال بعض المجتمعات في جاهلية القرن العشرين.

لقد تزوج النبي - عليه الصلاة والسلام - زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة، وهذا الموقف النبوي يُعدُّ عند قريش خروجا عن المألوف وثورة على القيم الجاهلية، وزوّج عبد الرحمن بن عوف أخته هالة ببلال بن رباح الحبشي، وهذا إن دلّ على شيء فإنّ ما يدلُّ على أنّ المجتمع النبوي المثالي تجاوز كلّ العقبات الاجتماعية ورسم نموذجا حضاريا يتلاءم مع الفطرة البشرية.

بعد العصر النبوي والخلافة الراشدة ظهرت بوادر القوميات الشعوبية التي تتعصب لجنسها وعرقها البشري، وظهرت هذه الحركة في بداية العصر الأموي ووجدت نفسها في العصر العباسي، وقد وقف في وجهها أبو عثمان الجاحظ، حيث بين دافعهم الحقيقي في النقمة على العرب في كتابه البيان والتبيين، وهذا الدافع الذي ظهر عند البرامكة وآل سهل جعل بعض الشعراء العرب يتعصبون لجنسهم ولغتهم وبالغوا في عصبيتهم، كما أنّ الخوارج الذين ظهروا في بلاد المغرب قاموا بزرع الطائفية وبينوا للبربر موقفهم من العرب، وهذه الثقافة الطائفية - عموما - جعلت المستشرقين الغربيين يجدون ضالتهم في التراث الأموي والعباسي وسعوا في نشره وبيانه  من أجل إعادة عصبية أخرى في القرن العشرين. 

وقد أشار عبد الرحمن حبنّكه الميداني في كتابه أجنحة المكر الثلاثة إلى دسائس المستشرقين في التراث الإسلامي وقولهم بأنّ المسلمين يقرّرون في قرآنهم أنّ الجنّة خاصة  بالعرب وأنّ النار خاصة بالسود مستدلين بمفهوم خاطئ في قوله - تعالى- " يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فأَمّا الذين اسودّت وجوههم أَكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأَمّا الّذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة اللَّه هم فيها خالدون" قائلين في هذا الفهم بأنّ السواد المذكور في الآية خاص بالسود وأنّ البياض المذكور خاص بالعرب وهذا لَعمري لَهو عين الكذب والافتراء، ذلك أنّ البياض لو كان على ما قالوا لما كان أبو لهب في النار ولا يشك أحد في بياضه وانتسابه لأشرف بيت عرفته البشرية، ومما يبطل زعمهم - كذلك - أنّ بلالا الحبشي سمع النبي - عليه الصلاة السلام - قرع نعليه في الجنة. 

إنّ الإسلام أوسع أفقا وأرحب صدرا من أن يعامل معتنقيه على أساس عصبي، إنّه يعامل الجميع تحت مظلة واحدة لا فضل لعربي فيها على أسود ولا فضل لأسود فيها على أبيض، الكل سواسية يقربهم التقوى ويبعدهم الكفر.

إنّ ثقافة شعب الله المختار التي عمل الصهاينة ومفكروهم من الماسونيين عليها واعتبروا أنّ من ليست أمّه يهودية ليس له الحق في الحياة وإن تركت له الحياة ما ذاك إلا خشية أن يستوحش اليهودي على هذه الأرض وترك لهذا الغرض، إنّ هذه الثقافة خارجة عن قاموس المسلمين على مرّ أربعة عشر قرنا والتاريخ خير شاهد على دولهم ومماليكهم شرقا وغربا التي نعم غير المسلمين فيها تحت حكمهم بالعدل والإنصاف.

لقد ظلّ المسلمون في إفريقيا مُنسجمين في ما بينهم مع اختلاف أجناسهم وألوانهم وقبائلهم ولم يسجل التاريخ اصطداما يذكر قبل دخول المستعمر الغربي حاملا معه أدواته من مستشرقين ومستعربين الذين بدؤوا في بث سموم الفرقة والتفرقة وسعوا إلى شق صفوفهم وقاموا بتزوير تاريخهم الناصع رافعين شعار فرق تسُد.

لقد امتزج المسلمون في شمال غربي إفريقيا بينهم ( موريتانيا، السنغال، مالي) كما امتزجوا في شرقيها بين ( الصومال واليمن ) حيث وقع بينهم تزاوج جعل بعضهم ينتمي إلى بعض مما جعل شوكتهم تقوى ضد عدوهم المشترك في الغرب وهو المستعمر الفرنسي وفي الشرق وهو المستعمر البريطاني.

ويقرّر هذه المعلومة التاريخية الأستاذ الخليل النحوي في كتابه "إفريقيا المسلمة الهوية الضائعة" حيث يقول: في المناطق الإفريقية المجاورة لموريتانيا، امتزج الدم العربي الصنهاجي بالدم الإفريقي منذ عهود بعيدة،،، وينسب إلى محمد نياس الكولخي قوله " نحن عرب سودتنا أمهاتنا "، ويذكر كذلك - الأستاذ -  الخليل النحوي بأنّ إبراهيم نياس لم يزل يزوج بناته من عرب موريتانيين، وأنّ الشيخ  محمد المامي تزوج مباركة بنت  الشيخ عمر الفوتي، وأنّ الشيخ أحمد حماه الله ولد من أب عربي وأم فلانية، وأنّ أمير الترارزة في جنوبي موريتانيا محمد الحبيب بن عمر تزوج أميرة " والو" جمبت فولدت له ابنه الأمير اعلي، كما أنّ الكثير من أبناء آل نياس تزوجوا من أسر عريقة وبيوتات لها حسبها ونسبها في موريتانيا، وذكر المختار ابن حامد في موسوعته  الجغرافية الكثير من القبائل الموريتانية التي هاجرت إلى السنغال واندمجت  هناك وهو الحال - كذلك - مع جمهورية مالي .

وفي هذا الصدد يقول الأستاذ الخليل النحوي ناقلا عن أشهر المهتمين بقضايا القارة السمراء قول أحدهم: إنّ الديانة المحمدية تبحث عن الإنسان في حقيقته فتتجاوز العَرض إلى الجوهر، وتترك الطارئ للباقي، ولذلك فإنّها تخمد كل نعرات التميز القائمة على العنصر واللون والجنسية، فالإفريقي يجد في الدين الإسلامي أعظم العزاء وكل الحماية. 

 

كل هذا يدعونا إلى بث روح الأخوة الإيمانية وتغليب روابطها على أي أساس قبلي أو جهوي يجعل سفينتا تمخر في عباب بحر المجهول.       لقد كان الإسلام إكسيرا لصهر المجتمعات واندماج بعضها مع بعض، ولم يكن واقفا يوما من الأيام ضدّ الاندماج الاجتماعي الذي هو أساس العزة والقوة، ألا ترى معي - أخي الكريم -نظرية التآخي والتكافل الاجتماعي التي رسمها محمد - عليه الصلاة والسلام - يوم قدم المدينة المنورة ؟

على الذين يضعون أيديهم على الزّناد ويمتلكون كلمة الفصل زعامة وريادة في قبائل موريتانيا المختلفة والمتنوعة، وكذلك زعماء الشرائح الوطنية الأخرى أن يعلموا أنّ علاقتهم مع إخوتهم في الدين والوطن حاجة ضرورية،  لا يمكن لأي منهم الاستغناء عن الثاني، وأن يتجنبوا كلّ الدعوات العنصرية التي نصّ الصهاينة في بروتوكولاتهم على تنفيذها في العالم الإسلامي عن طريق الماسونيين الذين لا يشترطون دينا ولا وطنا من أجل إيصال رسالتهم. 

وأن يعلموا بأنّ أي مجتمع اختلّ توازنه الاجتماعي والثقافي وانفرطت حبات عقده، لجدير بأن  يعيد  النظر في أبعاد مشكلته الاجتماعية والتي سيكون سببها الأول هو غياب الوازع الديني وعدم تطبيق تجلياته السامية في قضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكل حاجياته، الضرورية والكمالية والتحسينية.

المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي [email protected]المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي [email protected]

6. نوفمبر 2013 - 1:13

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا