الفساد آفة الجميع، حيث يعيق النمو والتطور ويستنزف الموارد والطاقات، ويؤدي في نهاية المطاف إلى فقر المجتمع، ولا يمكن لأي بلد كان أن ينهض ويزدهر بينما الفساد ينخر جسمه والمفسدون يتنافسون في نهب خيراته.
لا يوجد بلد خال من هذا الوباء أو استطاع أن يقضي عليه تماما، فتقرير مؤشر مُدرَكات الفساد الأخير (2023) يُظهر أن معظم دول العالم لم تحقق تقدماً يُذكر في معالجة الفساد في القطاع العام. فلا يزال المتوسط العالمي لمؤشر مُدرَكات الفساد دون تغيير عند 43 للعام الثاني عشر على التوالي. مما يعني أن ظاهرة الفساد تطال جميع دول العالم لكن بنسب متفاوتة.
في موريتانيا، لا يجمع المواطنون على شيء مثل إجماعهم على أن الفساد ينخر جسم الاقتصاد والادارة، دلالاته جلية وآثاره معاشة في تبديد المال العام، تفشي الفقر، تردي مستوى التنمية وعدم فعالية الخدمات المقدمة لهم. بالتالي لسنا بحاجة الى الاستدلال بأرقام المؤسسات الدولية المختصة، ورغم ذلك فقد جاء في التقرير المذكور آنفا أن موريتانيا احتلت المرتبة 131 عالميا من أصل 180 على مؤشر الفساد، بحصولها على 30 نقطة من أصل 100.
للفساد أوجه متعددة تتشابه من حيث البشاعة والخطورة. إلا أن النوع الذي يصيب المؤسسات والهيئات الإدارية لأجهزة الدولة ويتضمن جميع الانحرافات الإدارية والوظيفية أو التنظيمية التي تصدر عن الموظف العام أثناء تأدية العمل الإداري ومخالفة التشريعات والقوانين، أي استغلال الموظف العام لوظيفته وصلاحياته بغية الحصول على مكاسب ومنافع شخصية بطرق غير مشروعة هو الأكثر خطورة والأشد فتكا بالبلد وكينونته. هذه الظاهرة تنتشر حين تسود المحسوبية والمحاباة والوساطة في تولي المناصب الإدارية التي تتطلب الكفاءة والجدارة. يحصل هذا حين يحل الرجل غير المناسب في المكان المناسب وبالتالي نصبح أمام حتمية فساد المجتمع وخراب الدولة.
التاريخ يحكي لنا أن إحدى الاستراتيجيات التي اتبعت لتدمير الاتحاد السوفيتي سابقًا وسقوطه كانت من خلال وضع الإنسان غير المناسب في مكان مناسب مما يؤدي بشكل آلي إلى شلل وتخريب ذلك الموقع، ومع كثرة الفاشلين والتخريب أدى ذلك لاحقًا إلى سقوط النظام، وهذا الإنسان غير الكفؤ عند تعيينه سيحرص على إحضار أناس أقل منه كفاءة ليتمكن من التحكم، فينحدر المستوى ككل ومن ثم تستمر الدائرة هكذا دواليك حتى تتهاوى المنظومة كاملة.
الفساد لخصه مؤلف كتاب "السيطرة على الفساد" في الصيغة التالية: الفساد= الاحتكار + حرية التصرف – المساءلة
وطورت منظمة الشفافية الدولية هذه الصيغة بإضافة النزاهة والشفافية إليها فأصبحت في شكلها الجديد:
الفساد = الاحتكار + حرية التصرف - (المساءلة + النزاهة + الشفافية)
وجاء في تعريف آخر له بأنه إساءة استخدام السلطة العامة من أجل الحصول على مكاسب خاصة. ومهما تعددت تعاريف الفساد فإنها تصب جميعا في وعاء واحد وهو الهدر الاقتصادي للموارد المادية والمالية للمجتمع والفتك بمقدرات الشعوب وثرواتها وتخريب جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إذا تتبعنا الآثار الاقتصادية التي يخلفها الفساد، سنجد أنه لا يؤثر من حيث الكفاءة الاقتصادية والنمو فحسب، بل على التوزيع العادل للموارد بين السكان ويزيد من عدم المساواة في الدخل ويقوض فعالية برامج الحماية الاجتماعية.
1. أثر الفساد على الاستثمار الأجنبي المباشر
جاء في دراسة قام بها أحد الاقتصاديين "شانغ جين وي" حول علاقة الفساد بالتنمية الاقتصادية، أن الفساد يثبط الاستثمار الأجنبي وأن تخفيض مستوى الفساد من 5.75 درجة إلى 1 درجة سيعمل على جذب الاستثمار الأجنبي بمقدار مساو لتخفيض نسبة الضريبة على الشركات بنسبة 22%. فالتخفيف إذن من مستوى الفساد كفيل بإغراء المستثمر الأجنبي دون اللجوء الى تقديم الكثير من التحفيزات والاعفاءات الضريبية التي تشكل موردا هاما لخزينة الدولة.
2. أثر الفساد على النمو الاقتصادي
أثبتت أغلب الدراسات وجود علاقة عكسية بين الفساد والنمو الاقتصادي. فالنمو الاقتصادي يعتمد بدرجة أكبر على إنتاجية الاستثمار، ومن المعروف بداهة أن الفساد يؤدي الى تدني كفاءة الاستثمار العام وإضعاف مستوى الجودة في البنى التحتية بسبب الرشاوي التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسيئ توجيهها أو تزيد من تكلفتها الحقيقية.
فالرشوة التي تدفع للموظف أو المسؤول سوف تضاف إلى إجمالي تكلفة المشروع. مما يعني زيادة في التكاليف التي يتحملها الاقتصاد المحلي كما تفسح المجال لمنفذي المشروع للتلاعب بالمواصفات مما ينعكس سلبا على جودة البنية الأساسية والخدمة العامة ويخفض إيرادات الضرائب ويدفع الموظفين الأكفاء للتورط في السعي للربح بدلا من المشاركة في الأنشطة الإنتاجية.
ما دام الفساد يؤثر سلبا على العوامل التي تغذي النمو الاقتصادي كالاستثمار والضرائب وتكوين ومستوى الانفاق العام فإنه في المحصلة ستكون آثاره سيئة على الأداء الاقتصادي للدولة. وليس من قبيل الصدفة أن تكون العشر دول الأكثر فسادا في العالم وفقا لمؤشر منظمة الشفافية الدولية وتقرير التنمية البشرية الذي يصدره البنك الدول هي من بين الدول الأكثر فقرا في العالم.
3. أثر الفساد على التجارة الخارجية وارتفاع الأسعار
في الدول التي ينتشر فيها الفساد يتغول الاحتكار وتنعدم المنافسة، مما يؤدي في النهاية لارتفاع مستويات الأسعار.
في هذه البيئة الفاسدة تنمو الرأسمالية القائمة على المحسوبية، وهو ما يعني وجود قلة قليلة قريبة ممن يمسكون بالحكم والسلطة، تحصد، تقريبا، جميع ثمار التجارة والشركات والاعمال ولا شك أن هذا الوضع سيعمل على إعاقة الحركة الطبيعية للتجارة وبالتالي ارتفاع في الأسعار.
بينت دراسات قيم بها في هذا المجال أنه في بعض الدول التي ينتشر فيها الفساد تزيد أسعار بعض السلع والخدمات بنسبة 20% إلى 60% نتيجة للفساد الذي أصبح يضاف لتكاليف الإنتاج والتسويق.
4. أثر الفساد على الانفاق الحكومي
تظهر الآثار السيئة للفساد على الانفاق الحكومي من خلال تشويه وتخصيص الموارد الحكومية، فالفساد يؤدي إلى زيادة الاستثمار العام في المشاريع التي تتيح إمكانية استخلاص رشاوي كبيرة على حساب المشاريع التي تفيد المجتمع.
من صور تشويه النفقات العمومية كذلك: توجيه الجزء الأكبر من هذه النفقات لشراء المعدات الجديدة، لأن هذه البنود تمكن المسؤولين من الحصول بسهولة على عمولات عكس النفقات الموجهة للتشغيل والصحة والتعليم. فهذه القطاعات يفترض أنها أكثر منعة على التلاعب وتداول الرشوة مقارنة بالمشاريع الأخرى.
بالإضافة لما سبق، فإن الفساد يؤدي ل:
- ضياع الإيرادات نتيجة للتهرب الضريبي والاحتيال على دفع الرسوم الجمركية؛
- سوء توزيع الدخل، فالفساد يتيح لأصحاب النفوذ الاستئثار بالجزء الأكبر من المنافع الاقتصادية وذلك من خلال استغلالهم لمواقعهم في المجتمع مما يمكنهم، بشكل مستمر، من تراكم الأصول، مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين طبقة المفسدين وأفراد المجتمع.
مما تقدم، يبدو جليا مدى فداحة الآثار السيئة التي يخلفها الفساد من نهب لثروات البلد، وتفشي الرشوة والمحسوبية والمحاباة وانتشارٍ للفقر وتدهورٍ في الصحة والتعليم وإقصاءٍ للكفاءات المؤهلة وفقدانٍ للأمل لدى الناس.
فالفساد إذن قضية تشغل الجميع، وما يتم تداوله من عزم السلطات القضاء عليه يشكل بارقة أمل في كبح جماحه ودرء المفسدين. إلا أن مكافحة الفساد ليست بالعملية السهلة، فدائما تصطدم بمقاومة اجتماعية وإدارية قوية وتحتاج إلى إرادة قوية ورجال مخلصين، ورؤية وتشريعات واضحة وتأهيل وتكوين الهيئات المكلفة بمكافحته حتى تتمكن من القيام بأعمالها على أحسن وجه وتحقق أهدافها.
تمتلك موريتانيا ما يكفي من القوانين والهيئات المكلفة بمحاربة الفساد، دون أن يكون لذلك كبير الأثر في القضاء على هذه الظاهرة أو تقليصها على الأقل.
من هذه الهيئات:
- الرقابة المالية للدولة وقد أنشأت سنة 1960؛
- محكمة الحسابات التي انشئت بموجب المادة 68 من دستور 1992؛
- مفتشية الدولة وقد أنشأت بموجب المرسوم 122/05 بتاريخ في سبتمبر 2005، وتم إلحاقها برئاسة الجمهورية يوم: 15/12/2021؛
- المفتشية العامة للمالية والتي أنشأت في 1983 بموجب المرسوم رقم 033/83؛
- المفتشيات الداخلية للوزارات الخاضعة لمقتضيات المرسوم 075/93 الصادر بتاريخ 1993؛
- سلطة تنظيم الصفقات العمومية: الناشئة بموجب المرسوم رقم 179/2011؛
- اللجنة الوطنية لرقابة الصفقات العمومية التي أنشئت بتاريخ 7 يوليو 2011؛
- مفوضية شرطة الجرائم الاقتصادية والمالية المنشأة بموجب المرسوم الصادر بتاريخ 25/ يوليو 2004؛
- تبني الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، بتاريخ : 23/12/2022.
رغم أهمية هذه المنظومة من الهيئات والتشريعات ومحوريتها في القضاء على الفساد والسيطرة عليه، إلا أنها تبقى غير كافية دون التطبيق الصارم لنصوصها وتنفيذ العقوبات المترتبة عن ذلك. فمحاربة الفساد لا تكون بالقوانين فقط دون التطبيق الصارم لسياسة الردع والعقاب.
إن الإرادة السياسية هي العامل الأهم والحاسم في هذه المعركة ومن دونها لا يمكن مقاومة الفساد ولا التصدي له.
في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تصدر شعار مكافحة الفساد حملات جميع المرشحين نظرا لمستويات الفساد المرتفعة في البلد ولتلهف الجميع للقضاء عليه، مما جعل منه الموضوع الأكثر جذبا للناخبين. وخلال حفل التنصيب تعهد الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني، في خطابه بأنه سيخوض حربا مصيرية لا هوادة فيها ضد الفساد مؤكدا أنه لن يكون هناك، إطلاقا، تعايش معه. وأضاف أنه سيواجه بكل قوة وصرامة كافة مسلكيات وممارسات الفساد والرشوة والتعدي على المال العام. كما أكد مختلف وزراء حكومة المختار ولد أجاي في زياراتهم واجتماعاتهم مع معاونيهم على أنه لم تعد هناك إنذارات مسبقة للمفسدين. وأن القانون سيتم تطبيقه بكل صرامة مع مراعاة ظروف التشديد.
فيما مضى، كانت وسائل طرفي الصراع في معركة الفساد متباينة. فالساعون للقضاء على الفساد اعتمدوا، مع غياب الإرادة الحقيقية، آليات ظهر ضعفها وعدم فعاليتها، كسن القوانين والتشريعات وتنظيم الندوات والمسيرات والخطابات الدعائية. ومن حين إلى آخر، تًتخذ بعض القرارات المحدودة في الزمن غير المؤثرة في الواقع. بالمقابل، يلجأ الداعمون لبقاء بيئة داعمة للفساد إلى آليات أكثر تطورا، في سعيهم للتحكم في كواليس الحكم بالوسائل المؤثرة في اتخاذ القرارات، سواء بإفراغ أيّ تحرك لمكافحة الفساد من محتواه وإدخاله في دوامة مفرغة من التعطيل، أو باعتماد آليات التحكم السلطوي للسيطرة وبسط النفوذ والتي تراوح بين التحكم الناعم والتحكم العنيف من خلال الترغيب والمكافأة أو استعمال العنف والتهديد. فمن يصمت ويقبل أن يكون جزءا من دورة الفساد يغنم المغانم من مناصب ومال وجاه، ومن يواجه ويتحدى ويندّد، فمصيره العزل والاقصاء. وصار جليا أن الحرب تستهدف المواطنين الصلحاء النزهاء بدل المفسدين الذين يتسلقون الوظائف ويتبادلون المناصب.
اليوم يرتفع سقف تحدي القضاء على الفساد، فلا يكاد يخلو خطاب للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني من تعهدٍ بمحاربة الفساد بدأً بإعلان ترشحه لمأمورية ثانية الذي قال فيه وبوضوح " لن يكون هناك مكان بيننا لمن يُصرُّ على مدِّ يده للمال العام، كائنا من كان، ولن يُراعى في ذلك أي اعتبار". تم جاء خطاب التنصيب وكان وعيد المفسدين أشد والخطاب أقوى " سنضرب بيد من حديد كافة مسلكيات وممارسات الفساد والرشوة والتعدي على المال العام". كما لا يخلو اجتماع للحكومة من التعريج على الفساد والقضاء عليه وإصدار التعليمات بخصوص "محاربة الفساد وقاية وعلاجا".
الواقع ما زال كما هو، لم يطرأ تغيير كبير حسب ما نرى وما نسمع، حرب على الشاشة وفساد ظاهر ومستتر في الإدارة وتغول للمحسوبية والمحاباة. ما حصل هو التزام من القيادة السياسية بالضرب من يد من حديد كل مفسد ووعيد وتهديد. عمليا، تم عزل مسؤولين بمؤسستين عموميتين أثير الكثير من الشبهات حول عمليات اكتتاب للعمال قامتا بها. وهي مسألة لاقت الكثير من الترحيب والارتياح إلا أن ذلك ما زال بعيدا من آمال المبتلين بالفساد.
إن الحرب على الفساد التي يتطلع لها غالبية الشعب الموريتاني هي حرب لا تبقي مفسدا، تجفف المنابع وتستل الجذور، صداها قوي قوة أثر الفساد، شامل حد انتشاره موجع قدر آلام المواطن الفقير ومعاناته. حرب لا يخرج أبطالها مثل طائر العنقاء أبطالاً منقذين، وبعد أن كنا نظنهم مفسدين إذا بهم يتقلدون من جديد مناصب قيادية أسمى وأرفع، يحتفى بهم في كل مكان، وكأن التنحية والعزل من المنصب ليست إلا عملية غسلٍ للفساد وصيانة جديدة للأبطال.
ترى هل سنرى طحينا بعد كل هذه الجعجعة؟ وهل ستنجح هذه التهديدات وهذا الوعيد في كبح جماح الفساد ودرء المفسدين؟ وهل سنحقق في الأيام القادمة انتصارا على الفساد ونتمكن من القضاء على كل منافذه أم سيظل، كما في السابق، الحرب على الفساد شعارٌ وأداةٌ خطابية ودعائية؟ ذلك ما لا نتمناه.