إعلان السياسة العامة للحكومة الذي قدمه معالي الوزير الأول المختار ولد اجاي أمام البرلمان، اتسم بكثير من المعقولية والتأسيس الواقعي والفهم السليم لأهم التحديات والطموحات الوطنية والشعبية في هذه الفترة الحرجة.
ناهيك عن ما رافقه من مؤشرات على الوعي العميق بضرورة أن تكون الأهداف قابلة للتحقيق، وأيضا لقياس حدود ذلك التحقق ومداه..
ضف إلى ذلك أهمية التأكيد على ضرورة أن يفهم الجميع أن البناء الوطني مسؤولية جماعية لا بد أن يتحملها الجميع، كل من موقعه وحسب مسؤولياته وقدرته، كما لا بد من إشراك الجميع في رصد ومتابعة ومراقبة الأداء الحكومي. وفي محاربة الفساد ومعالجة أسبابه..
كل هذه المبادئ والأسس والمنطلقات والمحددات العامة تستفز مشاعر الإعجاب ودواعي الثقة والأمل، فضلا عن مجمل المشاريع التي حرص معالي الوزير الأول على تقديهما في صيغة تجعلها قابلة للقياس والتقييم زمانا ومكانا، سواء ما كان منها ذا طبيعة استعجالية على المدى القريب، أو ما كان منها على المديين المتوسط والبعيد.
وكل هذا شيء يدعو للارتياح والاستبشار بأن المأمورية الأخيرة لفخامة رئيس الجمهورية ستكون شيئا مختلفا..
لكن..
وفي "اللاكن" دائما توجد مشكلات عظيمة ومستدامة عاصفة بكل أمل ومثبطة لكل همة أو عزيمة..!!
لكن.. هناك مشكلات مزمنة لا أعرف كيف سيكون أثرها على الناس وهم يستمعون لخطاب معاليه وهو يقدم ملامح سياسة حكومته..
من أول تلك المشكلات أن الجميع يعرف أنه لا شيء أسهل من إلقاء الخطب والبيانات، وتقديم الوعود الوردية والتعهدات..
بل إن مواطنينا تعودوا ذلك منذ نشأة هذه الدولة، وعلى الأقل منذ 46 عاما؛ دون أن يجدوا في واقعهم الصارخ أثرا لأي إنجاز ذي قيمة سوى أن هذه الدولة مازالت قائمة وأن انهيارها وتمزقها لم يحدث بعد بفضل الله تعالى، وبفضله وحده؛ جلت قدرته، وعظمت حكمته، وعمت رحمته.
وحتى بالنظر لواقعنا ولماضينا القريب جدا؛ بل المعاش حتى؛ فإن المواطن يدرك جيدا أنه خرج للتو من أولى مأموريات فخامة الرئيس وهو (كما الوطن كله) يعيش وضعا وظروفا أبعد ما تكون مما دفعته وعود المأمورية السابقة للحلم به والأمل في تحققه قبل نهاية تلكم المأمورية.
وحتى فخامة الرئيس نفسه؛ لم يخف في خطاباته وتأنيباته لأعضاء حكومته مدى خيبته إزاء حصاد السنوات الخمس الفارطة من حكمه، وهو ما جعله يرسم خريطة طموحاته الكبيرة الجديدة لبلده وشعبه، وهي الطموحات التي جاء خطاب معالي الوزير الأول منسجما معها ناطقا بإرادة بلوغها وتحقيقها كاملة خلال السنوات القادمة..
ثم؛ إن الأيام القليلة المنقضية من عمر هذه المأمورية لم تسلم مما يدفع المواطن للشعور بمزيد من الشك وعدم اليقين بإمكانية أن تكون نتيجة الوعود والتعهدات الجديدة مختلفة عما عهده وتعوده طيلة العقود الماضية من عمر دولته العاجزة عن تجاوز مرحلة السير حبوا وتعثرا!!!.
فبالأمس القريب؛ مثلا؛ أعلنت حكومتنا الجديدة عن قرار واتفاق بخفض أسعار مادة الإسمنت؛ لكننا لا نكاد نجد مواطنا واحدا راضيا أو مستبشرا أو مقدرا لقيمة هذا التخفيض اليسير الذي تم الإعلان عنه؛ بل إن كثيرا من المواطنين مازال يؤكد أن لاشيء تغير في أسعار هذه المادة خصوصا في الداخل الذي مازالت أسعار الإسمنت فيه على ما كانت عليه.!!
ولم تمض أيام قليلة على إعلان ذلك التخفيض حتى أعلن عن "تخفيض" آخر في أسعار بعض المواد الغذائية؛ لكن هذا التخفيض هو الآخر اختلف المواطنون بشأنه اختلافا لا يبشر بخير؛ بين من رأى أنه أقر أسعارا أسوء من الأسعار التي تم إعلانها السنة الماضية، وبين من رأى أنها هي نفسها الأسعار الموجودة في السوق قبل الإعلان عنها؛ بينما رأى آخرون أنها احتفظت بالأسعار القائمة لبعض المواد وزادت زيادة طفيفة لأسعار بعضها الآخر!!!
هذه مجرد أمثلة على مستوى التفاهم والتعاطي القائم بين المواطن والحكومة في شأن ما تقوم به هذه الأخيرة وتقره وتقرره في معالجتها لمشكلات وحاجيات المواطنين الواقعية..
لكن الأخطر من هذا كله هو حرص حكومتنا على تأكيد اعترافها وإقرارها بأن الفساد موجود وأن وجوده لا يختلف اثنان عليه، وأنه لا تنمية ولا مستقبل للبلد دون القضاء عليه والتخلص منه..
إن هذا الكلام يثلج صدور الناس ويزيد ثقتهم في المستقبل وفي الرئيس والحكومة، وفي التعهدات والبرامج الطموحة المعلنة..
لكن الحكومة لا تلبث أن تقتل هذا الأمل لحظة مولده حين تصر على الاستدراك كي توضح أنه ليس أصعب من محاربة الفساد إلا إثبات حدوثه، وليس أصعب من ذلك ولا أكثر أولوية منه سوى إصلاح المؤسسات المكلفة بمحاربة الفساد، وتغيير عقليات المجتمع المفرخ للمفسدين!!!
إنها حقا صناعة الصدمة والحيرة والإحباط بكل إتقان واقتدار!!! وإلا فأي أمة أو دولة أو حكومة تلك التي تقر بوجود فساد مستشر فيها؛ ثم تزعم أنها تجد صعوبة بالغة في إثبات جريمة ممارسته على شخص بعينه؟؟
وإذن كيف عرفتم أنه موجود، وأكدتم ذلك بكل ثقة ويقين؟؟
ألا نبدو كمن لا يريد ولوج باب الوعود بالعطاء حتى يعد لنفسه باب الخروج منه، ولا يقبل فتح باب التعهد بالنجاح قبل إعداد العدة لتقديم مبررات مقنعة للفشل؟؟!!
لقد جعلنا أغلب الناس يجد صعوبة بالغة في التمييز بين ممارسة السياسة، وبين ممارسة الشعوذة والتحايل على العقول والمشاعر والأحاسيس..!!
نعم؛ لقد سمعنا خطابا حكوميا متماسكا وناضحا وواعدا، ومقنعا إلى حد بعيد، لكننا استمعنا إليه قبل أن نتمكن من الانبتات والتخلص من جذورنا المنغرسة في وحل الإحباط والشك وانعدام اليقين..
فهل يحاسبنا أحد على عجزنا عن التخلص من حالة اللامبالاة الغالبة تجاه كل ماهو حكومي أو سياسي أو متدثر بلبوس الوطنية والصدق والإخلاص للوطن؟؟!!
ثم؛ لكن أيضا.. و"اللاكن" عادة ذات وجهين: وجه منفر وقد تحدثنا عنه، ووجه مبشر سنجعله خاتمة هذا المقال المتواضع والرأي الذي لابد أن يكون له نصيبه من الصواب والخطأ كليهما..
نعم.. فرغم كل ما سبق؛ لكن ثمة أسبابا واقعية ومنطقية للاستبشار والأمل في أن تكون هذه المأمورية وهذه الحكومة بمثابة الفرصة التاريخية لتحقيق الكثير من المطامح والأهداف الوطنية الكبرى؛ كما لم يتحقق في أي مرحلة سابقة.
نقول ذلك لأنه لا حياة مع اليأس، ولا استسلام مع الأمل خصوصا إن أملا مؤسسا على أسباب واقعية ومعقولة.
وبين أيدينا من تلك الأسباب ثلاثة رئيسية هي:
-- السبب الأول:
أن هذه هي المأمورية الأخيرة لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وبنهايتها سيتحول فخامته إلى رئيس سابق ومواطن عادي يعيش بين كافة المواطنين؛ حيث سيكون متاحا لكل واحد أن ينقده ويقيم أداءه دون خوف أو تحفظ أو وجل.
كما يستاح لأي مواطن أن يثني على ذلك الأداء ويشيد به دون الخشية من أن يتهم بأن دافعه هو الخوف أو التملق أو محاباة السلطة واتقاء شرها وفتنتها.
أما رئيس الجمهورية؛ فلن يكون متاحا له ماهو متاح له الآن من فرص لتقييم مأموريته الأولى والعمل على تجاوز أخطائها وعثراتها في المأمورية الحالية.
ولا شك أن فخامته يفكر في هذا الأمر بكل جدية؛ وبدوافع كثيرة ليس أقلها رغبته الصادقة في خدمة هذا البلد وأهله، وخشيته الأكيدة كرجل مسلم من أهل التصوف والخير؛ من تبعات هذه المسؤولية العظيمة عند الله والتي اختار تقلدها وتحمل مسؤولياتها في الدنيا والآخرة بكامل حريته وإرادته.
-- السبب الثاني:
ويتعلق بمعالي الوزير الأول المختار ولد اجاي نفسه؛ فهو يتولى الوزارة الأولى لأول مرة في حياته، وقد وصل لهذا المنصب الرفيع بفضل عصاميته وكفاءاته الشخصية المحض؛ وهو يدرك جيدا أنه أمام اختبار آخر لشخصيته المميزة والمثيرة لإعجاب كثيرين؛ والتي لا شك أن ما يميزها من شطارة ومهارة وقوة كانت أحد أهم الأسباب التي دفعت فخامة الرئيس لاختياره على رأس حكومة أراد منها أساسا أن ترفع تحديات "مأمورية الوداع الأخير"..
ولا شك أنه إذا استطاع معاليه أن يدفع حكومته لتحقيق ثلثي أو حتى فقط نصف التعهدات المعلنة لفخامة الرئيس؛ فلسوف يقفز هذا البلد قفزة يخلد ذكرها مقرونة دائما بذكرهما: أي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني والوزير الأول المختار ولد اجاي.
-- وأما السبب الثالث: فيتعلق بالشعب الموريتاني نفسه؛ فعلى الرغم من تدني مستويات الوعي المعرفي والسياسي في هذا البلد؛ إلا الوعي صار عاما وعارما بشأن لامعقولية ولاعدالة الواقع القائم في هذا البلد قليل السكان كثير الثروات والخيرات؛ كما تضاعف الوعي بمسؤولية الدولة ومؤسساتها ومسؤوليها أمام المواطنين، وبأن كل ما يقدموه للبلد وأهله هو واجب عليهم وليس منحة ولا مكرمة، هذا بينما تراجعت نسبة الخوف من الدولة دون سبب وجيه؛ وهو ما يجعل أي عاقل يشعر بضرورة مواكبة هذا الوعي المتنامي؛ ليس فقط حفاظا على أمان وسلامة بلده، بل أيضا على سلامته هو نفسه وعلى أمنه وأمانه...
لذلكم فإننا لا نملك إلا أن نأمل خيرا عميما في هذه المأمورية، وأن ننصح جميع المواطنين خصوصا النخب والفاعلين في كل ميدان، بأن يتجنبوا الوقوع في وحل اليأس الفتاك، وبأن لا يترددوا في دعم هذا الإعلان الحكومي والمساهمة في إنجاحه وفرض الالتزام بإطاره ومحدداته ومنهاجه..
وفقنا الله جميعا لما يرضيه ولما يصلح أنفسنا وشؤون بلدنا.. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وما هو عليه بعزيز، عليه توكلنا وإليه ننيب..