الانبهار.. للاعتبار / محمدُّ سالم ابن جدُّ

altفي القرن الهجري الأول عاش أعرابي يدعى ناهض بن ثومة الكلابي، حدث عن نفسه –كما ورد في كتاب الأغاني- أنه انتجع ناحية الشام فقصد أحد أمراء بني أمية، وفي طريقه مر بديار بكر (في تركيا الآن) فرأى بيوتا ضم بعضها إلى بعض وناسا كثيرا مقبلين ومدبرين، أثوابـهم كألوان الزهر.. فارتاب في الأمر ظنا أنه عيد الفطر أو الأضحى لولا أنه تذكر أن خروجه كان في صفر بعد انصرام العيدين معا!!

وبينا هو في دهشته أقبل عليه رجل فأخذ بيده إلى دار قد نجدت فرش في كل نواحيها ومهدت، وفي صدرها شاب ينال فروع شعره منكبيه والناس صفان بين يديه، فلم يشك ناهض أنه الأمير الذي وصف له جلوسه وجلوس الناس بين يديه! لذا سلم عليه تسليم الرعية على الأمير لكن رجلا أجلسه قائلا: هذا ليس بأمير. قال ناهض: فما هو إذن؟ قال الرجل: عروس. قال ناهض: واثكل أماه.. لرب عروس بالبادية أهون على أهله!!

بعد ذلك جاء رجال بأشياء مدورة يدحرجون ما ثقل منها ويحملون ما خف، فوضعوها بين القوم الذين تحلقوا حولها، ثم جيء بـ"خِرَق" بيض فألقيت عليها، فهم ناهض أن يسألهم ما يصنع به قميصا منها لولا أن رآها تتمزق سريعا، وإذا هي –"فيما زعموا"- صنف من الخبز!!

ثم جيء بأطعمة مختلفة من حلو وحامض وحار وبارد.. وفي النهاية جاؤوا بشراب أحمر في شن، فقال ناهض: "لا حاجة لي به.. أخاف أن يقتلني" فقال الجالس إلى جنبه: يا أعرابي إنك أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء همى بطنك!! فثاب ناهض بمجرد ذكر البطن وأشفق على نفسه وأكثر من ذلك الشراب "ليتداوى به" ولبث لا يزداد على شربه إلا الرغبة في الشرب!! وداخله صلف لم يعهده في نفسه، وبكاء لم يعرف سببه، وغرور ظن معه أنه لو أراد لمس السقف لناله ولو ساور الأسد لقتله!! بل صارت نفسه تحدثه بالبطش بالرجل "الناصح له"!!

وفورا "هجم عليهم شياطين أربعة أحدهم يعلق في جيده جعبة فارسية دقيقة الوسط قد شبحت بالخيوط شبحا منكرا؛ فيما استخرج الثاني من كمه هنة سوداء كخرطوم الفيل وضعها في فيه وصوت بـها" صوتا لم يسمع ناهض –"وبيت الله- أعجب منه، ثم حرك أصابعه على ثقوبـها فأتى بصوت متلائم متشاكل كأنما ينطق"!!

أما ثالث الأربعة فوصفه ناهض بأنه "مقيت (منقبض قبيح) عليه قميص وسخ وفي يديه مرآتان (صنجان) جعل يصفق بإحداهما على الأخرى فخالطت أصواتـهما ما يفعله الرجلان".

وبدأ الرابع يثب كأنما يمشي على ظهور العقارب (يرقص) ثم التبط على الأرض فصاح ناهض: "معتوه ورب الكعبة"!! غير أنه لم يبرح مكانه حتى كان أغبط الأربعة عنده لما رأى القوم يمطرونه بالدراهم.

وكان معهم شاب لا يلتفت ناهض إليه ولا يكترث به، فعلت أصوات المشيدين به فخرج وعاد "بخشبة عيناها في صدرها، وفيها أربعة خيوط، فعرك آذانـها وحركها فنطقت –ورب الكعبة- وإذا هي أحسن قينة" رآها قط! ثم غنى فطرب ناهض حتى استخفه من مجلسه ووثب فجلس بين يديه وقال له: بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة؟ فلست أعرفها للأعراب، وما أراها خلقت إلا حديثا؟!

قال المطرب: هذا البربط.

فواصل ناهض: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟

- الزير.

- فالذي يليه؟

- الْمَثْنَى.

- فالثالث؟

- الْمَثْلث.

- فالأعلى؟

- الْبَمّ

- آمنت بالله أولا، وبك ثانيا، وبالبربط ثالثا، وبالبم رابعا!!

طبعا كان هذا "بدويا" في أواخر القرن الهجري الأول.. ولكن كم تحسب لدينا –عزيزي القارئ- من الناهضين الذين يذهبون إلى جدة وباريس.. إلخ، ومن النواهض اللواتي يذهبن إلى برشلونة ولاس بلماس.. وغيرهما، في القرن الهجري الخامس عشر؟!!

تذكرت هذه القصة منذ أيام حينما رأيت شيخين لا تخفى براهين بداوتهما على باب عمارة "الخيمة" يقدمان رجلا فينفتح الباب الآلي فيؤخران رجلا مشاكسة لـ"هذا من الحصول" وربما خوفا من المجهول.

11. نوفمبر 2013 - 16:43

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا