من أكثر مشكلات العصر الحالي تعقيدًا، هي مشكلة الفساد التي تواجه المجتمعات الحديثة، حيث يؤثر بشكل كبير على التنمية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، والثقة في المؤسسات، ويمكن تعريف الفساد على أنه إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب شخصية، وهو ظاهرة تتخذ أشكالاً متعددة، منها الرشوة، والمحسوبية، والاختلاس، والتزوير.
وقد عرف بعض المعاجم الفساد بأنه: "هو كل سلوك مخادع / احتيالي وغير أمين من طرف المسؤولين في السلطة، والذي عادة ما ينطوي على الرشوة".
كما عرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الفساد بأنه: " استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص".
أما الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد فقد وصفته بأنه "ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على القيم الأخلاقية والحياة السياسية والنواحي الاقتصادية والاجتماعية".
من جانبها عرفت منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه: "إساءة استعمال السلطة الموكولة لتحقيق مكاسب خاصة".
وبالإضافة إلى ما سبق من تعريف للفساد، فإنني أرى أن مفهوم الفساد قد يتجاوز أحيانا المستوى الإداري والمالي إلى مستويات أفقية داخل المجتمع، فإذا كان صاحب السلطة أو المنصب الإداري يأخذ الرشوة مقابل التخلي عن الأمانة فإن الراشي شريكه في الخيانة. والتهرب الضريبي نوع من الفساد، وسرقة الماء والكهرباء فساد، والاستلاء على الملكية العامة من أرض وغيرها فساد، والممارسة السياسية المنافية للقيم السليمة فساد، وعدم إنفاذ العدالة بين المتقاضين فساد، وعدم احترام الطابور فساد، والتغيب عن مكان العمل وقت الدوام فساد ... وبالتالي فإن الفساد يشكل مشكلة متشعبة، تحتاج إرادة قوية وصادقة واستراتيجية شاملة تنصهر فيها جهود الجميع.
وفيما يلي نستعرض أبعاد الفساد وأهمية طرق محاربته، بالإضافة إلى الاستراتيجيات الفعالة لمكافحته.
الفساد معيق للنمو الاقتصادي، من خلال تقليل كفاءة الاستثمار وتوجيه الموارد إلى مشاريع غير فعالة. كما يرفع من تكاليف الأعمال ويجعل بيئة العمل أقل جاذبية للمستثمرين، كما أن الفساد يعيق الابتكار والنمو جراء تفضيل العلاقات الشخصية على الكفاءات الحقيقية.
كما أن الفساد يقوض مبدأ العدالة والمساواة، مما يخلق بيئة من الاستياء والظلم الاجتماعي، ويشكل الولوج إلى الوظائف دون مراعاة للكفاءة والأهلية أحد أبرز أوجه الظلم الاجتماعي، حيث يتم الاكتتاب عن طريق العلاقات الشخصية حسب القرب من دوائر النفوذ، ومنح الصفقات على أساس النفوذ لا على أساس الكفاءة والمصداقة، الشيء الذي يترتب عليه ظلكم متعدد الأبعاد، ففي ذلك ظلم لذوي الكفاءة من خلال حرمانهم من الوصول إلى حقوقهم الطبيعة، وفيه حرمان للمرفق العام أو الخاص من الكفاءات القادرة على تمكينه من تحقيق أهدافه التي من أجلها تم إنشاؤه، وهناك ظلم ثالث يشكل نتيجة حتمية لما سبقه من ظلم، وهو ظلم المواطن المستفيد من المرفق الذي تم هدمه وتخريبه من خلال حرمان الشخص المناسب من المكان المناسب.
ومحصلة ذلك كله هي تردي الخدمات العامة، حيث يؤدي الفساد إلى سوء تقديم الخدمات العامة مثل التعليم والرعاية الصحية، مما يؤثر سلباً على جودة حياة الأفراد.
وللفساد كذلك تأثيرات سياسية، ومن مظاهرها ضعف ثقة المواطنين في الحكومات والمؤسسات العامة، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي وإضعاف الديمقراطية.
ومن أجل محاربة الفساد محاربة فعالة لا بد من تعزيز الشفافية والمساءلة، وتفعيل المؤسسات الرقابية:
ـ إنشاء وتعزيز الهيئات الرقابية المستقلة التي تقوم بمراقبة الأنشطة الحكومية والأعمال التجارية.
ـ الإفصاح المالي: إلزام المسؤولين الحكوميين والشركات بالإفصاح عن مصادر دخلهم وأموالهم، مما يساعد في كشف الفساد.
ـ التربية المدنية: إدراج مفاهيم النزاهة والشفافية في المناهج التعليمية لزيادة وعي الأجيال القادمة حول مخاطر الفساد وأهمية محاربته.
ـ التدريب المهني: تقديم دورات تدريبية للموظفين الحكوميين والشركات حول أخلاقيات العمل والشفافية.
ـ الصرامة القانونية: وضع قوانين صارمة لمكافحة الفساد وتحديد عقوبات قاسية للمتورطين في أعمال فساد، والسهر على تطبيقها بشكل لا تهاون فيه ولا محاباة.
ـ استقلالية القضاء: ضمان تطبيق القوانين بشكل فعّال من خلال أنظمة قضائية مستقلة وغير منحازة.
ـ استخدام التكنولوجيا: استخدام الأنظمة الإلكترونية لتسهيل العمليات الحكومية وتقديم الخدمات العامة، مما يقلل من فرص الفساد.
ـ تحليل البيانات: استخدام التحليل البياني والذكاء الاصطناعي للكشف عن الأنشطة المشبوهة.
ـ تشجيع المشاركة المجتمعية: تشجيع المواطنين على الإبلاغ عن حالات الفساد من خلال قنوات آمنة ومأمونة.
التعاون الدولي: التعاون مع المنظمات الدولية لمكافحة الفساد وتبادل الخبرات وأفضل الممارسات.
وفي ختام هذا المقال الذي نقصد من خلاله المشاركة في محاربة الفساد، في ظل مأمورية جديدة للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، شعارها الأبرز هو محاربة الفساد، فإنني أعيد وأكرر أن الفساد يشكل عقبة كبيرة أمام التنمية والعدالة، ولكن إذا توفرت الإرادة الصادقة لمحاربته بوضوح وشفافية، وتم الاعتماد على التطبيق الصارم للقوانين، واستخدام التكنولوجيا، والمشاركة المجتمعية، فلا شك سيتحقق تقدم كبير نحو مكافحته، حتى يتسنى للشعب الموريتاني أن يستفيد من ثرواته الكثيرة، وينعم بالرخاء والازدهار بين شعوب العالم.