ليس من شك في أن القلم هذه الأيام يصعب عليه التركيز على موضوع بعينه، وهو يرى الحملات السياسة المحمومةتجتاح البلاد، تلك الحملات التى يبدو أن دورها التعبوىفي هذه المرة لم يقتصر على تعليم الموريتانيين "الأعماق" كما وصفهم أحد المدونين، ـ لم يقتصر على تعليمهم كيفية التصويت واختيار المرشح الأنسب بالنسبة لهم، بل تجاوز الحماسُ ذلك كله ليصل إلى حد قيام طائفة من الموالين بالاعتداء على خصمها المعارض،وتحطيم سيارته، وإصابته بجروح !!!
من البديهى القول بأن ذلك خلق مشين، لا يقره عقل ولا دين، ولا تقره الأعراف السمحة لهذا البلد الرحب.
إننى وبعد إدانتى لهذا الموقف سأصل الحبل بعنوان المقال محاولا تجلية الموضوع وإيضاحه قدر الإمكان من وجهة نظر الفقه السياسىالإسلامى، وقبل تفكيك عناصر هذا العنوان دعنى أقف وقفة مع السلبيين المتشائمين الذين لا يرون في جميع المرشحين أو المترشحين من هو صالح للانتخاب!
هذه الرؤية جعلت كثيرا من الناس يتقاعس عن واجبه الانتخابى مع أنها رؤية مرفوضة من قبل "فقه الموازنات" لأن منطق هذا "الفقه" يقول: إن المرشحين أو المترشحين إما أن يكونوا صالحين كلهم، وحينها يختار الأصلح؛ وإما أن يكون البعض صالحا والآخر طالحا، فلا جرم يختار الصالح؛ وإما أن يكونوا كلهم فاسدين، وحينها يصار إلى الأخف فسادا، وهذا نموذج من "ارتكاب أخف الضررين" المشار إليه في قواعد الفقه الإسامى.
وبعد تلك الوقفة القصيرة، نصل إلى تفكيك العنوان ونتساءل لماذا أسمينا التصويت في الأنتخابات واجبا انتخابيا؟
والجواب على هذا السؤال يُعلم عندما يَفهم القارئ أن الفقهاء السياسيين الإسلاميين اعتبروا الانتخاب نوعا من الشهادة، والشهادة واجبة متحتمة وخصوصا عندما يُستشهد الإنسان (تطلب منه الشهادة) قال تعالى:ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا،وقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه (البقرة،282،283) يقول:الطاهر ابن عاشور معلقا على الآية الأخيرة: ((وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال))|(التحرير والتنوير،ج2،ص588)|.
وجاء في زاد المسير لابن الجوزىقال:قالالقاضى أبو يعلى:إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها.
فإذا كانت الدولة قد وفرت لكل من يحق له التصويت الوسائل المطلوبة ومكنته من أداء واجبه الانتخابى، ولم ينتخِب؛ فمعنى هذا أنه على جانب كبير من التقصير؛ ومن هنا نجد عالما كبيرا بحجم الدكتور يوسف القرضاوى يقول: ((ومن تخلف عن واجبه الانتخابى، حتى رسب الكفءُ الأمينُ، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لم يتوفر فيه وصف "القوى الأمين" فقد خالف أمر الله في أداء الشهادة، وقد دُعى إليها، وكَتَمَ الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها، وقد قال تعالى :ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ، وقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)). |من فقه الدولة في الإسلام،ص139|.
ثم إن هذه الظاهرة ظاهرة بدوية هى الأخرى، لأن البدوى قاصر الطرف في غالب الأحوال عن المعانى والتحولات الكبرىالتى تشهدها الدولة فضلا عن التى يشهدها العالم، فهو ضيق الأفق لا يعنيه إلا قطيعه الذى يتبع والأماكن التى ينتجع ...جاهلا أن التحولات السياسية الكبرى التى تشهدها دولته لها تأثير اقتصادى مباشر تستفيد منه الرعية أو تذهب ضحيته لا قدر الله.!
ومن هنا فإننا نستنكر أن يكون شباب مثقفون محسوبون على التمدن والتحضر يخوضون في السياسة ليلَ نهارَ يوجِّهون ويعلِّمون، مع أن صناديق الاقتراع لم تعرف صوت أحد هم قط ،كما يحكى بعضهم! هذه ظاهرة سلبية، بدوية، مخالفة...ينبغى تجاوزها.
والآن لا أشك أنك عرفت قيمية صوتك في الانتخابات، وكيف أنه واجب عليك أن ترجح به كفة الأصلح، لكنك تتشوف إلى معرفة الأصلح، من هو، وما أماراته الشرعية المطلوبة؟
وللجواب على هذا السؤال لا بد أن تعود بنا الذاكرة قليلا إلى ذلك الكتاب الفذ في بابه الذى ألفه العلامة ابن تيمية، وهو كتاب "السياسة الشرعية" وهو عبارة عن رسالة مؤلفة في هذا الموضوع، وقد بنى ابن تيمية رسالته هذه على آيتين من كتاب الله هما قوله تعالىإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ، وقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(سورة النساء : الآيتان 58 ، 59).
قال ابن تيمية معلقا :وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها ، والحكم بالعدل : فهذان جماع السياسة العادلة ، والولاية الصالحة.
ثم قال ـ رحمه الله ـ وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب ، فإن الولاية لها ركنان : القوة والأمانة . كما قال تعالى : إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (سورة القصص : من الآية 26) . وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(سورة يوسف : من الآية 54) . وقال تعالى في صفة جبريل : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (سورة التكوير : الآيات 19-21). ثم أشار إلى أن هذه القوة في كل ولاية بحسبها، فقال:
فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب ، وإلى الخبرة بالحروب ...
والقوة في الحكم بين الناس: ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة ، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام .
والأمانة: ترجع إلى خشية الله ، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً ، وترك خشية الناس ؛ وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس ، في قوله تعالى : فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(سورة المائدة : من الآية 44).
إذا على الناخب أن يراعى فيمن ينتخبه هذه الشروط وأن يتحراها، فالأقرب إليها هو من يستحق أن يُصوَّت له، أما الذين يصوتون على مجرد أساس قبلى، أو جهوى، أو على أساس مصلحة خاصة بينهم وبين المرشح، فيكفيهم ما حكاه القرضاوى في الموضع المذكور من كتابه آنفا، قال:((ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة شهادة الزور، وقد قرنها القرآن بالشرك بالله إذ قال:فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، الحج 30، ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله تعالى: وأقيموا الشهادة لله ، الطلاق2)).
ثم إن ذالك الاختيار المبنى على أساس القوة، ولأمانة،في المرشح، واجب من الواجبات التى فهمها بعض العلماء من آية النساء المذكورة، يقول عبد الرحمن بن حسن حبنكةالميدانى :
ففي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا .
أمر من الله لجميع المسلمين بأن يؤدوا أمانة الحكم والسلطان لمن هم أكفياء للقيام بواجبات هذه الأمانة منهم،|الحضارة الاسلامية ص385|.
فالواجب الانتخابى إذا يتلخص في نقطتين أساسيتين:
الأولى منهما: اعتقاد جميع المواطنين الذين توفرت فيهم الشروط أن القيام بالتصويت واجب عليهم، وينبغى أن تغرس هذه العقيدة بأدلتها الشرعية في قلوب الجميع.
الثانية: أنه إنما يجب التصويت للأكفأ، لا لغيره، فإن لم يُحصَّل ذا كفاءة ــ كما يزعم البعض ــ صير إلى الأخف سوءا.
السالك ولد الشيخ
ملاحظة: ما ذُكر من النقد لا تدخل فيه المنسقية الرافضة.