لم تكن جلسة عرض برنامج الحكومة على البرلمان قبل أيام جلسة خاطفة تجدد الروتين المعهود للبرلمان منذ فترة، حيث هبطت طبيعة السجال السياسي إلى مستويات واطئة من الممحاكة والزخرفة اللفظية.
كان لافتا خلال عرض الوزير الأول لبرنامج حكومته، أننا أمام متغير سياسي وتنموي جديد، يحدد حجم التأثير والحراك الإعلامي الذي رافق تعيين الرجل، وتسنمه للمنصب الأهم في الحكومة.
قدم الوزير الأول برنامجا غير تقليدي لحكومته، لا من حيث توزيعته وحجم الطموح الذي يحمله، زيادة على الواقعية في جوانب متعددة منه، إضافة إلى تحديده للزمن بين قريب ومتوسط، لما ستنفذه حكومته من مشاريع وبرامج.
وفوق لك كان مستوى الصراحة في الاعتراف بحجم العثرات التي اعترضت العمل الحكومي ومسارات التنمية خلال العقود المنصرمة، نقطة لافتة في برنامج حكومة ولد أجاي، وفي ردوده على النواب.
محاور متكاملة
تنتظم السياسة الحكومية التي قدمها الوزير الأول خمسة محاور متكاملة، تمثل في مجملها روح البرنامج الانتخابي الذي قدمه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للشعب، ونال بموجبه ثقة الأمة، وهذه المحاور هي:
الحوار الوطني الشامل: الذي يجدد رؤية رئيس الجمهورية بشأن الحوار " الذي يقصي أحدا ولا يستثني موضوعا جوهريا" ويعني هذا الحوار ترسيخ روح التهدئة والارتقاء بالحوار السياسي إلى المواضيع بدل السجالات الشخصية، ويؤكد هذا الحوار المرتقب وما سبقه من حوارات سياسية أن التهدئة هي في النهاية مكسب للنظام والأغلبية، زيادة على استلالها لفتيل الأزمة السياسية، التي ظلت طيلة عقود عائقا شديدا أمام نقاش القضايا الأكثر أهمية مثل تطوير مسارات الانتخابات، تعزيز الوحدة الوطنية، مراجعة قانون الأحزاب وغيرها من الملفات التي تحتاج دائما إلى نقاش مرحلي لتطوير مساراتها، وأدواتها.
إصلاح العدالة: يمثل هذا العنوان المحور الثاني في السياسة الحكومية، ويعني السير في تطبيق مقتضيات وثيقة إصلاح العدالة الصادرة قبل سنة تقريبا، ودون شك فإن السير في هذا الطريق يعني مزيدا من تعزيز الفصل بين السلطات، وضمان نفاذ القانون، وحاكميته على الجميع
ترقية حقوق الإنسان: ضمن الاستيراتيجية الوطنية لترقية وحماية حقوق الإنسان (2024-2028)،وتعني السير الحثيث في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، بما في ذلك تجاوز مخلفات وآثار الاسترقاق، والحل النهائي لقضايا الوحدة الوطنية.
محاربة الفساد: يمثل هذا المحور البند الأكثر أهمية في برنامج رئيس الجمهورية، وفي السياسة الحكومية، لأنه يعني بكل بساطة الوقوف في وجه الداء الأكثر فتكا بالسياسات والموارد، والمرض الذي صنع نخبا وأثرياء، وأفلست بسبب مؤسسات، وأخفقت سياسات متعددة، وترك بصمته بشكل لا يمكن التقليل من خطورته ولا التهوين منها.
تحرير الاقتصاد وتشجيع الاستثمار: يعني تطوير القطاعات الانتاجية، انتهاج مقاربة تنموية جديدة غير تقليدية، وبشكل خاص فإن فتح أبواب الاستثمار، هو بوابة النهوض التنموي، ودون شك فإن الموريتانيين محتاجون بالفعل إلى مسار تنموي جديد، قادر على استغلال الموارد والرفص واختصار الزمن، فقد ضاعت فترات طويلة من عمر الدولة في سياسات لم تقرب التنمية المنشودة.
ردود الوزير الأول..حجج متماسكة
جاءت ردود الوزير الأول على الأسئلة والملاحظات، بل والانتقادات، وحتى المزايدات والاتهامات لتظهر أنه بالفعل رجل دولة، وأنه يملك القدرة القوية على إدارة الملف الذي أوكل إليه، والثقة التي منحها إياه رئيس الجمهورية، كما أظهرت بالفعل عمق معرفته بمختلف الملفات القطاعية.
ودون أن تتحول جلسة نقاش الحكومة إلى مشادات غاضبة، كما وقع في فترات ماضية، كان أداء الوزير الأول فارقا في فرض استماع مطول للردود، على مختلف ملاحظات النواب، ليظهر بالفعل أن عددا منها غير مؤسس من حيث بنائه على معلومات غير دقيقة، أو سياقات غير مكتملة.
امتازت ردود الرجل بالمحاججة المنطقية، دون تسفيه أو تقليل من شأن أصحاب الأسئلة والانتقادات، وفي تسلسل للأفكار والمعلومات، وبلغة الأرقام، كانت ردودة مقنعة، بعيدة عن التضخيم والتهويل، متماسكة في حججها وفي أسلوب عرضها، وبانتهاء عرض الحكومة لا يكون ولد أجاي قد نال فقط ثقة البرلمان في حكومته، وإنمال نال أيضا مستوى كبيرا من التقدير من النخب، التي لا يختلف كثير من منصفيها حول كفاءة الرجل وصرامته وقدرته على الإنجاز، وتسلسل أفكاره، وتمكنه من الاستخدام المنهجي للمعطيات والأرقام.
كان لافتا حديث الوزير الأول عن العوائق المتعددة لمشروع النماء، خصوصا فيما يتعلق بأزمة العطش في العاصمة نواكشوط، والتوجهات الجديدة في قطاع التعليم العالي، وكذا في وضوح رؤيته في محاربة الفساد، والتمييز بين الفساد، وأخطاء التسيير والإهمال.
نحن دون شك أمام مسار جديد في تنسيق وإدارة العمل الحكومي، وأمام ديناميكية جديدة، ظهرت بوادرها الأكثر خلال الشهر الأول من انتداب الوزير الأول.
ومع المؤشرات الأولى المتعددة من إلغاء مسابقات تناولتها سهام التشكيك في المصداقية، وإقالة مسؤولين متهمين بتحويل المؤسسات إلى مراكز اكتتاب أسري ضيق، أو مراجعة أسعار بعض المواد الأساسية والسير بها نحو التخفيض المتدرج
كل ذلك يبشر بأن القادم بإذن الله تعالى أفضل، وأن التوجهات المعلنة في السياسة الحكومية، ستأخذ طريقها إلى التنفيذ، متقيدة بالآجال المحددة لها، وفوق ذلك تعني بالفعل أن اختيار المختار ولد أجاي لمنصب الوزير الأول كان بالفعل اختيارا موفقا، لما يتمتع به الرجل من كفاءة التكنوقراط، وخبرة السياسي.