تتميز الحملة الانتخابية التي تعيش البلاد على إيقاعاتها المتعددة و رنات أجراس موسيقاها المتفاوتة الحدة و الشجن، بأنها من منظور التحول مختلفة في شكلها و سياقها كذلك. و هي و إن بدت و كأنها مضمار سباق للشباب و النساء اللذين كانوا بما سُوِقَ
أو بناء على ما تبقى من ظلال ما كان حصل منه بالفعل. علما بأن أول طبقة سياسية عرفتها البلاد قبل و بعد الاستقلال كانت كلها من فئة الشباب و شاخت و لم يسلم أفرادها المشعل إلا أن ينتزعه منهم الموت ليحمله من بعدهم خلف من فئتهم العمرية أو دونها قليلا. حتى يفعل بهم الردى في رحلته الأزلية مع الأرواح أو عجز الوظائف البدنية، الأمر الذي ظل يستحكم إلى أن أصبح واقعا كرس في الفعل السياسي العام نهج "الجرونتوكراسيا Gérontocratie" (حكم الشيوخ)، فإن واقع الأمر لا يخفي ضعف هذا الحضور الذي أُدرج لدى البعض من المنظرين السياسيين في إطار و بمفهوم تجديد الطبقة السياسية حيث كان مطلبا بغض النظر عن مشروعيته و إلحاحيته أو عن سذاجته و ميوعته، من منظور علم الاجتماع السياسي الذي لا يربط مطلقا تجديد الطبقة السياسية بالفئة العمرية و إنما يعني بالأساس إتاحة الفرص وفتح المجال دون تمييز وبمساواة أمام جميع الفاعلين في المشاركة السياسية، من خلال حقوق الترشح و التصويت في الانتخابات و وضع المسارات السياسية للمجتمع. و إذا كان ما يجري من حراك سياسي في سياقه العام يندرج في ما هو متاح من حرية و ما
هو حاصل من المسار الديمقراطي على منواله، فإن ضبطه لقياس مدلولاته على غيره من حولنا أمر بالغ الصعوبة لاختلاف السياق المجتمعي و مضامين وعيه للدمقراطية مفهوما و غاية و وسيلة و مطلبا أو على الاصح حاجة مرتبطة بالكيان والمصير.
و الحراك كفعل في صيرورة التاريخ الذي هو حركة بالأساس يأخذ أبعاده و يحدد مساراته و أهدافه من منطلق الوعي به، فيكون إما حركة لا تقف عند هدف أو معنى و إما يحمل ثقل المشاريع و المقاصد المرسومة سلفا بناء على التشاور و الوفاق بهدف ضبط وتيرة التوازن و الديمومة.
و في التجارب من حولنا - و قد انزلق البعض منها ممن لم يتحكم في ضوابط التجربة و إلزاماتها - بعض الدروس و العبر التي كان حري بنا استخلاصها و دمجها في منظومة الوعي الجديد على خجله لدينا و لولا أننا في واقع الامر ما زلنا عصيين عليه على الرغم من أنه سمة العصر البارزة و نواة استقراره منذ نهاية الحربين العالميتين 12-14 و الثانية 39-45. و هي التجارب التي إن لم تكن حققت لحد الساعة أهدافها إلا أنها حققت أمورا ملموسة منها:
- ترسيخ مفهوم الدولة التي أصبحت فوق الكيانات القبلية و العشائرية و الاثنية و الجهوية و الطوائف الدينية،
- تقدير المعرفة و التجربة و معياريتهما دون سواهما في حقل التوظيف و إسناد المسؤوليات على الاكفاء و أصحاب العطاء المتجدد،
- شجب كل مظاهر أو أسباب تفشي الفساد بجرأة، و فضح أسماء متعاطيه بمعزل عن أية اعتبارات من أي نوع كانت،
- بلورة مفهوم دولة المواطنة و تقدير دور الفرد في احترامه القوانين و تصديه لخرقها بالوقوف إلى جانب السلطات المعنية و كذلك الحصول دون استجداء أو شطط على حقوقه كاملة في الظرفين الزمني و المكاني المواتيين،
- الحفاظ على الثوابت و القيم المشتركة لمواطني البلد واحترام اختلاف ثقافات و خصوصيات مكونات البلد و رموز الدولة و الغيرة على حوزتها الترابية و مؤازرة جيشها و قوات أمنها في ذلك.
و هي الامور التي بجمعها و التقيد بها يعبر أي شعب إلى الشاطئ الآخر ليرسخ الدولة في الأذهان و يشمر السواعد التي يسهل عندها أن تتشابك مضيا إلى بناء الكيان القوي القابل للاستمرار يحفه الأمن و الأمان في عالم يشهد تحولات لا قبل للإنسانية بها.
صحيح أن هذه الحملة الانتخابية تميزت بروح تجديد لا يمكن إغفالها و على مستويين اثنين:
- أولهما مزاحمة العنصرين النسوي و الشبابي للمترشحين من الكهول و الشيوخ سياسيين أو ممن ليس لهم ماض سياسي تحت غطاءي المال و الوجاهة التقليدية أو هما معا،
- و ثانيهما مشاركة كل الاحزاب المرخصة التي ارتأت المشاركة في استحقاقات 23 نوفمر للبلديات و النيابيات و إن رأى البعض - محقا كان أم مخطئا في التقدير- أن أغلب هذه الأحزاب غير وازن و أنه إنما عوض عما كان مسموحا به من ترشح المستقلين في الماضي و أن ذلك شبه عودة إلى المربع الأول.
و هي أيضا الحملة التي و إن برقت بوهج و حضور و صخب المرأة و الذي طغى حتى على ما بدا و كأنه حضور و مشاركة فعلية من الشباب فى الاستحقاقات لم تنج:
- من أوجاع الماضي وأورامه الخبيثة، حيث كان الشعر الممجد للأفراد على خلفية القبلية و العشائرية و غير ذلك مما كان متعارفا على أنه تمييز دوين التأليه،
- من خلو الخطابات من بذور البرامج المجتمعية و من العمق السياسي البناء،
- من شحذ الهمم و قدرة التوجيه إلى متطلبات البلد الأكثر إلحاحا متمثلة في الوحدة الوطنية و رفع ظلم المجتمع عن فئاته الضعيفة و التوجه إلى المستقبل بتحريك الحاضر و التخلص من سلبيات الماضي.
أو لن نظل بكل هذا بعيدين عن الحد الأدنى من فهم نعمة "الدمقراطية" و عن استغلالها للنجاة من الجمود و التقوقع في جهالة الماضي و خمول الحاضر و ضبابيىة المستقبل؟