ما أشبه الليلة بالبارحة! / محمد يسلم يرب ابيهات

altتعرف الساحة السياسية في بلادنا هذه الأيام، ومنذ الإعلان عن موعد الانتخابات التشريعية والبلدية في 23 من شهر نوفمبر الحالي، نقاشات ساخنة، وتحركات واسعة، وحملة انتخابية مستعرة، علي خلفية أزمة سياسية خانقة بين الفرقاء السياسيين

من أغلبية ومعارضة محاورة-بكسر الراء- ،من جهة، ومعارضة غير محاورة ومقاطعة. كل ذلك وسط جدل بيزنطي يدور حول المفاضلة بين مقاطعة الانتخابات والمشاركة فيها! جدل أدي ببعض تلك المعارضة إلي حسم أمرها بشكل واضح، فاتخذت قرارا بالمشاركة، مع اقتناعها بعبثية البحث عن الظروف المرضية التي تضمن شفافية ونزاهة الانتخابات المزمع تنظيمها. فيما أفضي نفس الجدل بفريق آخر من المعارضة إلي الحسم، وإن بشكل متأخر، بالمقاطعة " الفاعلة "!

إلا أن المتتبع للمشهد السياسي في بلادنا، يلاحظ ببساطة مذهلة، أن الظرفية السياسية التي تمر بها موريتانيا اليوم، تشبه إلي حد بعيد الظروف السياسية والملابسات التي عرفتها البلاد، ما بعد اتفاق داكار الشهير!

ومع أن المنطقة وشبهها، والعالم بشكل عام، وعالمنا العربي علي وجه الخصوص، عرف أو يعرف تحولات عميقة، اثر أحداث عظيمة، قلبت الموازين، والي غير رجعة، في بعض الأقطار، إلا أن بلادنا لا تزال تتمنع وتستعصي علي التحول العميق الذي تحتاجه من غير شك. لكن، وبالتأكيد، بشكل بعيد كل البعد عن كل عنف أو قلاقل لا طاقة لبلدنا بها أصلا، ولا يتمناها عاقل لوطنه.

وبغض النظر عن أحقية البعض أو خطئهم في محاولة استلهام تلك التحولات والتجارب التي عرفتها شعوب تشبهنا في تعقد وتشابك وإلحاح أوضاعها علي جميع المستويات وفي شتي الميادين، إلا أن الحقيقة فيما يخص بلادنا تظل بارزة ،وهي أن موريتانيا، ومنذ استقلالها، لم تعرف ،ولغاية يومنا هذا، أوضاعا سياسية تسمح بجعل الاستحقاقات الانتخابية مناسبات ديمقراطية حقيقية، تضمن وصول نخبة سياسية تمثل المواطنين وتطلعاتهم الحقة إلي سدة الحكم، وذلك نظرا، في الأساس إلي تعاقب الانقلابات العسكرية، وهيمنة "الحكامة" العسكرية علي السلطة.

هذا هو التشخيص الصحيح والمنطلق الأهم، من وجهة نظري، لكل محاولة جادة لفهم عميق، وسبر متأن ومعمق لواقع بلادنا وما تعانيه من مكبلات معيقة عن أي تحول ايجابي، وتقدم نحو الأفضل، والأصلح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا و ثقافيا.

لذلك، أري أن موضوع المشاركة أو المقاطعة لا يستحق منا كل ذلك التركيز، مما قد يوهم البعض أن المضي إلي الانتخابات ومشاركة الجميع فيها، أو مقاطعتها وإفشالها، هو الحل السحري لما تتخبط فيه البلاد من أزمات سياسية واجتماعية!

كلا، فلا المشاركة ولا المقاطعة هما جوهر المشكل. ولكلّ من الموقفين أدلته و مسوغاته التكتيكية المحضة بالنسبة للأحزاب السياسية، مع خطريْ، التهميش والتغيب عن منبر البرلمان في حال المقاطعة، وخطر تزكية انتخابات تنظمها سلطة "الحكامة" العسكرية ولا تتمتع بشروط الشفافية والنزاهة!

لكن الأهم، يظل من وجهة نظري، هو التنبه إلي الوضعية الحقيقية للبلاد وما تعانيه من مشاكل جوهرية.

فالبلاد لا تزال ترزح تحت نير هيمنة سياسية واضحة، وتحكّم صارخ لجنرالات وضباط، لم يعودوا يخفون نواياهم في مواصلة التحكم في كل مفاصل الدولة، ومن ثم الانفراد بتوجيه القرار السياسي للبلد.

يحرّمون الانقلابات عاما ويحلّونها عاما، ليواطؤوا صنيع نظراءهم في بلدان ظلت ولا تزال تعرف الفشل السياسي الذريع، نظرا لأنها عانت من خطر انشغال حماة الحوزة الترابية والسيادة الوطنية، بالسياسية، وتوليهم إدارة الشؤون الإدارية والاقتصادية للدولة.

ولعلّه يحلو للبعض هنا المسارعة إلي التذكير بما تم سنّه مؤخرا من قوانين تحظر وتجرم الانقلابات العسكرية في موريتانيا، فأقول لهؤلاء بكل بساطة إن هذه القوانين، ستظل حبرا علي ورق ما لم تتضافر الجهود من أجل تهيئة الظروف المواتية لتطبيقها. ويتمثل ذلك أولا وقبل كل شيء في العودة الفعلية للجيش إلي التقيّد بالمهمة النبيلة والدور الأهم الذي يجب أن يضطلع به علي الدوام، ألا وهو الدفاع عن الحوزة الترابية، والابتعاد كليا عن السياسة. فالسياسة تفسد الجيوش وتشغلها عن التفرغ لواجب الجاهزية والإعداد للدفاع عن الوطن.

والبلاد لا تزال تعاني من تحكم ما أسميه "الأطر القديمة والبالية" لتحرك الأفراد والجماعات. وأعني بتلك الأطر و الدوائر: دائرة القبيلة، والطبقة، والعرق، وحتى اللون والجهة. وهي مناطق تحرك سياسي واقتصادي واجتماعي و ثقافي تتناقض في الصميم مع مفهوم الدولة الحديثة. فلا تزال القبلية والطبقية والتهميش تقف حائلا دون ترسّخ مفهوم الدولة، والمواطنة، والمصلحة العامة. ولنا أن نسجل هنا، وبأسف بالغ وحسرة كبيرة، غياب أي محاولة جادة، أي فاعلة ومؤثرة، من طرف النخب السياسية والمثقفة للبلد، من أجل محاربة القبلية والطبقية والطائفية، وآثار الممارسات العبودية، بشكل سلمي، يجنب البلد ويلات العنف ومآسيه. ولمن لا يعي هذا الخطر في كل أبعاده، أومن يقلل من حدّة خطورته، يكفي التذكير بأحداث كيهيدي، وحرق الكتب الفقهية قبل ذلك، والتصريحات الانفصالية الأخيرة–في جرأة نادرة !- من طرف قادة "أفلام" بعد عودتهم من فرنسا.

والبلاد لا تزال تعاني من سوء توزيع للثروة، وهو سوء توزيع أدي علي تعاقب الأنظمة والحكومات إلي تكدّس الثروة في يد فئة وثلة قليلة من رجال الأعمال، الذين –وهذا أدهي ! - ينتمون في معظمهم إلي شريحة معينة، بل حتى إلي قبائل معروفة، من المجتمع. مما أدي إلي تفاقم أوضاع الشرائح الضعيفة والمهمشة أصلا بحكم الظلم التاريخي الممارس في حقها، والتصنيف الطبقي الذي لا يرحم، مهما تعددت وعلت كفاءات ومؤهلات المهمشين فيه.

والبلاد لا تزال تعاني من تدنى في مستويات التعليم، النظامي الذي يحتضر، و كذا الخاص، الذي يتحول يوما بعد يوم إلي وسيلة لجني الأرباح الطائلة دون أدني اكتراث بالمستويات المعرفية للتلاميذ. هبوط في المستوي المعرفي للتلاميذ لم تنفع في الحد منه "المنتديات العامة للتعليم" التي انعقدت ارتجالا وعلي عجل، ولم تفض إلي إصلاح لواقع التعليم.

والبلاد تعرف موجة من غلاء الأسعار، وصعوبة في العيش يعاني منها أرباب الأسر والعمال يوميا، في مشهد تحول فيه المواطن الموريتاني إلي ممارس محترف لرياضة الركض وراء السيولة، سيولة يحتاجها الجميع لضمان الحصول علي قوتهم اليومي، فلا يجدونها، مع ما يذكر ويزعم من توازنات اقتصادية كبري- ماكرو اقتصادية- ،وفائض في العملة الصعبة، عجز نظام "الحكامة" العسكرية عن تحويله إلي واقع معاش، يمكّن المواطن من العيش الكريم.

أما عن الاحتقان السياسي، وعدم تفاهم الطبقة السياسية علي أي شيء، بدءا من تشكيل اللجنة المستقلة للانتخابات، وانتهاء باللوائح الانتخابية والترتيبات العملية، وتهيئة الظروف الضرورية والشروط الموضوعية لإجراء الانتخابات، فحدث و لا حرج...

فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أعظم مصاب شعب تتوالي عليه الانقلابات العسكرية، وتخونه طبقة سياسية، لا تريد في الغالب إلا النفع المادي العاجل والمناصب المريحة، ويخذله مثقفون لا يعرفون للتضحية من أجل الوطن معني.

فهل تسهم الانتخابات المزمع تنظيمها في تغيير هذا الواقع المؤلم؟

 

 

16/11/2013 انواكشوط

http://www.013sadouq.blogspot.com/

18. نوفمبر 2013 - 9:49

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا