على مدار الأسبوعين الماضيين دخل ما يربوا على ثمانين حزبا سياسيا موريتانيا في حالة من الصراع المرير لكسب معركة القلوب كل في اتجاهه ومبتغاه، حيث ذهب ما يعرف بمجموعة أحزاب المنسقية العشرة بعيدا في الدعوة إلى مقاطعة ما تعتبره مهزلة انتخابية لم تتوفر لها شروط
النجاح ولا مسوغات المشاركة ، ولم تدخر هذه الأحزاب جهدا في التعبئة والتحريض على عدم المشاركة فيها ، بل تجاوزت ذلك إلى حد تنظيم المظاهرات والاحتجاجات والتهديد - في منافاة واضحة للمنطق الديمقراطي السليم- بالسعي إلى منع إجرائها جبرا يوم الاقتراع ، رغم عدم توفر دلائل موضوعية جدية تثبت قدرتها على تنفيذ مثل هكذا تهديد .
وفي المقابل ظهرت عشرات الأحزاب المشاركة في هذه الانتخابات بطيفها الموالي والمعارض في حالة من هستيريا الصراع المحموم على اكتساب قلب الناخب بعيدا عن عقله، فارتكز الصراع في أحيان كثيرة على إحياء الانتماءات العرقية والفئوية والقبلية وعلى النفخ في نار الخصوصيات الضيقة، بين محرض على بعض مكونات الشعب الواحد وبنبرة عنصرية لا يخطئها السامع أو عازف على أوتار السلطوية والعصبية والعنصرية والجهوية والقبلية والطائفية الدينية والسياسية . في حين ظل الغائب الأبرز هو الخطاب السياسي المتوازن النابع من الوعي بمشكلات المجتمع والقادر على تقديم الحلول الناجعة لها .
ولعلنا بنظرة أولية عابرة حول المناخ السياسي الذي جرت في ظله هذه الانتخابات النيابية والمحلية وحول المسار السياسي والدعائي الذي صاحبها طيلة الفترة المخصص للحملة الانتخابية ، يمكن أن نخرج بالملاحظات التالية :
أولا : فيما يخص موقف الأحزاب المقاطعة :
لقد قام موقف أحزاب المنسقية المقاطع لهذه الانتخابات على اعتبارها مسارا أحاديا ، وفي ذلك تجاهل واضح لحقيقة ناصعة، يدركها أي مواطن عادي ، وهي أن عشرات من الأحزاب الوطنية الأخرى تشارك في هذه الانتخابات، بما فيها أحزاب بارزة في المعارضة، ظلت إلى وقت قريب تشكل أحد أهم الفاعلين في المنسقية كحزب تواصل مثلا و" أحزاب المعاهدة" القادمة بدورها تاريخيا من هذه المنسقية، قبل أن تقرر الدخول مع النظام في حوار مهم تجري معظم ترتيبات الانتخابات الراهنة في ضوء نتائجه .
لهذا قد يبدو تسويق موقف هذه الأحزاب المقاطعة بحاجة إلى أكثر مما قامت به حتى الآن، خاصة أنها ظلت تعول وعلى مدار العامين الماضيين على استخدام مسألة انتهاء شرعية البرلمان والمجالس المحلية الحالية ، في الطعن في شرعية النظام وفي التأكيد على عجزه حتى عن تجديد المؤسسات الدستورية في البلد، وهو ما يتجلى في نظرها في استمرار العمل بمؤسسات منتهية الصلاحية، ولكن هذا الموقف من انتخابات يرى فيها المواطن فرصة لتجديد هذه المؤسسات يعكس هو الآخر عجز لدى ما تبقى من أحزاب المنسقية عن تسويق ما يمكن اعتباره خارطة طريق مقبولة من الجميع للخروج من هذا الوضع ، بل لعل هذه الأحزاب تبدو من خلال هذا الموقف من الانتخابات أشبه بمن يريد تكريس وضع لمجرد الرغبة في نقده .
ثانيا : فيما يخص الأداء الحملاتي للأحزاب المشاركة
على الرغم من أن هذه الانتخابات تميزت بمشاركة أزيد من 70 حزبا سياسيا وهي مشاركة غير مسبوقة من حيث العدد في التاريخ الانتخاب الوطني، إلا أن الهدف من هذه المشاركة الواسعة انحصر على ما يبدو على الأقل من خلال المضمون السياسي والدعائي لمعظم حملات الأحزاب السياسية المشاركة في مجرد رغبة جانحة إلى فوز بهذا المقعد أو ذاك ، ومع أن هذا الهدف يبقى مشروعا لكل حزب ، إلا أنه يجب ألا يؤدي إلى تغييب ما يمكن وصفه بالأهداف الإستراتيجية لأي حزب سياسي طموح ، وخاصة أثناء الحملات الانتخابية، ومن ذلك العمل على تحقيق أهداف مهمة مثل هدف الترويج للمشروع الوطني للحزب وتوضيح رؤيته لمجمل القضايا الوطنية المطروحة، وهدف الرفع من مستوى الوعي والاهتمام بهذا المشروع في مختلف الدوائر الانتخابية التي يقرر الحزب المشاركة فيها، ناهيك عن أهداف التعريف بكفاءة المرشحين وبنزاهتهم وقدرتهم ووعيهم بمشكلات الوطن عموما ودائرتهم الانتخابية بشكل خاص، وغير ذلك من الأهداف المهمة التي كان يجب أن تشكل الحملات الانتخابات فرصة حقيقية للتعريف بها والتعبير عنها .
إن هيمنة الخطاب العاطفي في هذه الحملات وغياب الخطاب السياسي العقلاني والمعتدل الذي يخاطب عقول الناس لا قلوبهم عنها، هو الذي يفسر عدم وعي الأحزاب المشاركة بأهمية تحقيق مثل هذه الأهداف، ناهيك عن العديد من العوامل الأخرى مثل :
- ضعف مستوى الوعي لدا معظم مرشحي ومسؤولي حملات الأحزاب بمشاريع أحزابهم الوطنية ، حتى لا أقول جهلم بها .
- عدم اهتمام الأحزاب بالقدرات الذاتية للمرشحين، حيث ما زال يمثل شخص المرشح ومكانته القبلية والاجتماعية والفئوية والمادية، وخاصة في الكثير من الدوائر المحلية ، نقطة البداية والارتكاز في إمكانية فوزه من عدمها، وهذا ما يجعل التركيز على أمور مهمة مثل خبرات المرشح السابقة ومستواه التعليمي وانجازاته ومصادر ثروته ليس مهما لكونه يقع في آخر أولويات الناخب الوطني وخاصة في الدوائر ذات التأثير الاجتماعي الكبير.
كما أن اعتماد النظام اللائحي بشكل كامل في هذه الانتخابات أدى هو الآخر إلى الاهتمام أكثر بالترويج للائحة الحزبية ككل على حساب الاهتمام بأشخاصها. وهو ما يجعل هذا النظام وإن كان مهما لبعض المجتمعات ذات الوعي المرتفع بأهمية الأحزاب السياسية وبالتعويل على البرامج السياسية الحزبية ، فإنه يبقى بعيدا عن مقتضيات التعامل مع الواقع الاجتماعي في بلادنا.
ويبقى أن نقول أنه إذا كانت أمورا أخرى مثل عدم الرضا عن الأوضاع العامة ، وضعف الثقة في معظم الوجوه السياسية الراهنة والإحباط الشديد من استمرار تصدرها للمشهد العام ولعقود طويلة رغم كل الملاحظات عليها ، كانت تشكل مادة خصبة للدعاية السياسية لدا عدد من الأحزاب المعارضة، وخاصة ضد بعض خصومهم من مرشحي الأحكام المتعاقبة، فإن الملاحظ هو أن التركيز المطلق على هذه الأمور أدى بالمقابل إلى إهمال الحديث عما هو أهم، أي عن الاهتمام بمشكلات الدوائر الانتخابية التي قدم المرشحون أنفسهم لتمثيلها وعن تقديم الحلول العملية والواقعية لحلها، ناهيك عن العقلانية والاعتدال في مشاريع الإصلاح العام لمجمل الأوضاع ، إذ لا يكفي أن نقف عند حدود نقد الوضع العام وتشخيص ما به من أعطاب دون أن نعمد إلى تقديم الحلول المناسبة للمشكلات المطروحة والكيفية التي يمكن أن يتم بها تحقيق ذلك .
ولهذا يمكن أن نخلص من هذه الملاحظات إلى القول بأن سعي الجميع إلى التأثير على الناخبين وبأي وسيلة دفعهم إلى استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في معركة كسب القلوب ، وذلك عبر مخاطبة العواطف وشراء الذمم واستغلال النفوذ والتدين الفطري لمعظم الناس، بدل الخطاب العقلاني المعتدل الذي يقوم على الوعي بطبيعة المشكلات المطروحة وعلى تقديم الحلول الممكنة والمعقولة لها.