"ثلاث وخمسون سنة من الاستقلال: ضرورة التغيير"
يُخيّل للبعض، في جهل مطبق، وغفلة عارمة، وقصر نظر قاتل، أن اللغة أداة تواصل لا أكثر ولا أقل. وأنها حيادية، فيمكن للانجليزي، أو الفرنسي، أو الألماني، أوالياباني أن يستغني عن لغته، فيستعمل الأول مثلا اللغة الفرنسية، والثاني الألمانية، والثالث العبرية، والرابع الصينية!
إنها حالة من غياب الوعي، تعززها "قابلية الاستعمار" والوهن العام، تُصيب بعض الشعوب، فتغيب عنها أهمية لغتها الأم، أو تُضطر، غصبا عنها أحيانا، إلي استعمال لغة غريبة عليها، بل حتى لغة أجنبي ليس له من نعمة يمنّها، سوي الاستعمار والاستغلال ونهب الخيرات...
لكن اللغة شيء آخر. فاللغة تبلغ من الأهمية والخطورة، ما لا يقل عن الأرض و الشعب والسلطة. إنها، بالتحديد، وخشية الإطالة، هوية كل مجموعة بشرية معينة، وأداة تواصلهم، ووسيلة تحصيلهم للمعارف، وخزان قيمهم، وملخص ماضيهم، وقوام حاضرهم، وضمان مستقبلهم، وميْسمهم الخاص بين الأمم، ومقياس رقيهم وازدهارهم، تستمد حيويتها وانتشارها وإشعاعها واستعانة الآخر بها من مستوي الرقي والتقدم الحضاري لأهلها. هذا هو الحال بالنسبة لكل لغة.
أما بالنسبة للغة العربية، التي هي لغة الموريتانيين جميعا، لأنها لغة القرآن، ولا داعي للتذكير هنا بما يرمز إليه القرآن في حياة كل مسلم، فهي لغة مقدسة، خالدة، عالمة، راقية. وهي، بدون أدني شك، احدي أهم لغات العالم المتحضر، سمحت قدما بانتقال المعارف والعلوم اليونانية والإغريقية، إلي العالم الغربي المتبجح اليوم، والمتنكر لجميل هذه اللغة الفذة. وهي اليوم اللغة الخامسة عالميا من حيث الأهمية والانتشار، حسب التصنيفات التي تذكر وتنشر.
وما دامت اللغة العربية بهذه الصفة وعلي هذا القدر من الأهمية، وهي مع ذلك بالنسبة للموريتانيين جميعا، إما لغة أم، أو لغة ملة ودين، وثقافة ومحيط، فلماذا شكلت موضوع خلاف، حول ترسيمها كلغة وطنية رسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ خصوصا إذا علمنا أن المستعمر الفرنسي حين قدم إلي هذه الرقعة المترامية الأطراف، لم يجد أمامه إلا الحرف العربي. فكانت كل مراسلات الفلان في بلاد التكرور بشكل عام، والسوننكي والوولوف، لا تكتب إلا بالحرف العربي. وكانت لغات هذه الأعراق ولا تزال تستخدم المفردات والمصطلحات العربية، وتكثر فيها الاقتباسات، بشكل طبيعي وتلقائي من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وهذه حقيقة تاريخية، يعرفها الجميع ولا ينكرها أحد.
كل ذلك للتأكيد بشكل مؤسس وموثق، حيث يقوم علي حقائق تاريخية، أن اللغة العربية لم تكن ولن تكون أجنبية علي أي موريتاني، ليست لغته الأم، فما بالك بالغالبية الأغلب، التي هي لغتها الأم!
وما دامت الحالة هذه، فللمرئ أن يستغرب أن تكون اللغة العربية قد شكلت، ومنذ السنوات الأولي لفترة ما بعد الاستقلال، أحد أعتي و أقسي وأصعب مواضيع الخلافات التي برزت علي السطح، وأكثرها حساسية، بين مكونات الشعب الموريتاني، فور الشروع في بناء الدولة الموريتانية الحديثة.
ويكفي هنا التذكير بالأحداث المأساوية لسنة 1966م والتي، كان قرار استخدام اللغة العربية، أحد أهم أسبابها.
وليت القلاقل والهزات وقفت عند ذلك الحد. فلقد عرف البلد سنوات صعبة، في السبعينيات من القرن الماضي، طغت عليها الصراعات المريرة بين المطالبين بالتعريب الشامل، والمطالبين في غباء وألْينة منقطعة النظير، إلي فرنسة الدولة!
ومع أن المسألة حُسمت فيما بعد، علي الأقل من الناحية القانونية، حيث أصبحت اللغة العربية، وبموجب دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، هي اللغة الرسمية للبلاد، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار الخلافات الحساسة والحرجة جدا، حول مكانة اللغة العربية في الإدارة والتعليم، إلي جانب اللغات الوطنية الأخرى، واللغة الفرنسية، التي تفرض نفسها بقوة كلغة علوم عصرية، ولغة اقتصاد تهيمن عليه التبعية المطلقة للخارج، مع ترسّخ عميق لطابع "الفرنسة" علي الشركات الاقتصادية، في القطاعين العام والخاص. ولم يكن من شأن وضعية كهذه أن تبسّط الأمور ولا أن تساعد علي إجماع وطني حول تعريب الإدارة والتعليم.
زد علي ذلك أن أغلب المثقفين، سواء من العرب وغير العرب، في سنوات ما بعد الاستقلال، هم خريجو الجامعات الفرنسية. فلم تكن الأمور سهلة، وقد أدت تلك الوضعية إلي ردة فعل قوية، في أوج ازدهار الفكر القومي العربي، تمثلت في إصلاحات للتعليم، ركّز التكوين فيها علي الكم العددي علي حساب الكيف. فكانت الطامة الكبرى التي أدت، من خلال خطة "إفساد" عظيم للتعليم، إلي تكوين نوعين من الموريتانيين: عرب لا يعرفون إلا اللغة العربية، وهذا خطأ فادح في حدّ ذاته، وغير عرب لا يعرفون إلا الفرنسية، وهذا خطأ أفدح!
ليُتوّج كل هذا التخبط في نظامنا التعليمي "بإصلاح" أخير، يقضي بتدريس المواد العلمية، كالعلوم الطبيعية والرياضيات والفيزياء والكيمياء، باللغة الفرنسية وهو، والله إصلاح أقرب منه إلي الإفساد. بل هو نظام يُنذر بانعدام أي مستقبل علمي لموريتانيا، حيث تبرهن أحدث الدراسات التربوية والعلمية الرصينة علي أن الطفل لا يستوعب المعارف والمفاهيم العلمية البحتة إلا في لغته الأم، مع العلم أن اللغة الفرنسية ليست اللغة الأم للمكونات العربية ولا غير العربية من شعبنا!
فلماذا الإصرار والتمادي علي اللغة الفرنسية؟ وإذا كان البلد عاجزا عن توفير مرجع المادة العلمية وأستاذها ومناهجها إلا بلغة أجنبية، فلماذا لا يقع الاختيار علي اللغة الانجليزية، علي الأقل، التي هي لغة العلوم بامتياز في عالمنا المعاصر؟
كل هذا الكم الهائل من التساؤلات والإشكاليات، التي يطرحها موضوع اللغة يعطي فكرة ولو بسيطة لقارئ هذه السطور عن خطورة وتعقد وتشعب موضوع اللغة، حيث يشمل الموضوع التطرق إلي جميع جوانب الحياة بالنسبة للأفراد والدولة، فيُحدّد معالم حاضرها ومستقبلها العلمي والثقافي. ومن ثم يعطينا فكرة عن إمكانية نهوضها ورقيها وتقدمها، علي جميع الأصعدة، وفي شتي الميادين، حيث يبقي كل ذلك مرهونا بمدي تقدم نظامها التربوي واستقامته علي أسس قوية، أولها وأهمها اللغة.
كذلك يجب التذكير بأن اللغة هي أهم وأبلغ وأقوي مظاهر التعبير عن السيادة، في عالمنا الحديث. فلا يُتصور في بلد يحترم نفسه، كفرنسا مثلا، وهو بلد يعتز بثقافته ويفتخر بها، أن يتجرأ فيه نائب أو شيخ علي الحديث تحت قبة البرلمان الفرنسي بلغة غير لغة "موليير" فهذا ممنوع منعا باتا، وهو من المستحيلات..لا يستطيع حتى الحديث ب"الكورسيكية" .. فما بالك بلغة أجنبية!
وهذا لعمري عين الصواب. فما دام البرلمان الفرنسي، مؤسسة دستورية للدولة الفرنسية، لها هيبتها وحرمتها، وما دام النقاش يقع في مواضيع تخص في المقام الأول المواطن الفرنسي، فليس هناك مجال للتحدث بغير اللغة الفرنسية. وهكذا الشأن لدي جميع الدول والشعوب التي تحترم هويتها، وشعوبها، وثقافاتها.
أما عندنا، فلا نظام، ولا ضوابط، ولا أسس تنظم الحديث داخل قبة البرلمان.
ولكم كنت أشعر بالخجل والهوان عندما أسمع نائبة "بيظانية"، تعلن دائما، وفي كل مداخلة، أنها لا تحسن التحدث إلا بلغة المستعمر، فتشرع في رطنها، علي مرأى ومسمع من الجميع،...يا للعار!
وكم كنت أشعر بالخجل والاستغراب، وأنا أسمع أحفاد الحاج عمربن سعيد تال الفوتي، والشيخ عبد القادر كن –مؤسس الدولة الامامية- ، والشيخ الحاج محمود با، يفضلون الإعراب عن أفكارهم بلغة المستعمر، بدلا من لغة القرآن والرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلي آله!
إنها فداحة عدم الاكتراث بالهوية العربية الإسلامية والإفريقية لهذا البلد المسكين، ينتخب مواطنوه المغلوبون علي أمرهم، كل من هب ودب من "رويبضة" فيستبيح هذا الأخير كرامة البلد وعزته وكبرياءه، فيدوس كل ذلك في جهل مطبق وسفه مخجل!
ولكم أتمنى أن تختفي كل المظاهر المشابهة، من البرلمان القادم. وأن يُحظر فيه الحديث إلا باللغة الرسمية للبلاد، والتي هي اللغة العربية.
ولكم أتمنى كذلك أن يحظر ويمنع منعا باتا، الحديث بأي لغة سوي العربية، علي الوزراء، وكل أعضاء الحكومة، والأمناء العامين، وكتاب الدولة، والإداريين، وكل الرسميين، وكذا الدبلوماسيين، علي الأقل حين يدلون بتصريحات باسم الدولة الموريتانية. وكذلك يجب إخطار جميع البعثات الدبلوماسية المعتمدة في بلادنا أن لغة التخاطب مع الإدارة والمؤسسات الرسمية والهيئات العامة للبلد، ليست اللغة الفرنسية، وإنما هي اللغة العربية واللغة العربية وحدها.
فهل نعود جميعا إلي رشدنا، ونحترم هويتنا وحضاراتنا، وديننا وقيمنا، ونعمل علي إتقان جميع اللغات الحية، بما فيها الفرنسية، لكن ليس علي حساب لغة الموريتانيين جميعا، ألا وهي اللغة العربية؟