"ثلاث وخمسون سنة من الاستقلال: ضرورة التغيير"
تمضي اعتبارا من يوم 28 نوفمبر لهذه السنة، 2013، ثلاث وخمسون سنة علي استقلال موريتانيا. وهي ذكرى عزيزة، لا يمكن أن تمر دون وقفة تأمل، أو علي الأقل، تستحق هذه الذكري وقفة تفكيرمن المهتمين والدارسين والمحللين، تسهم في رصد وتتبع ما تم انجازه،
وتأتي علي الاختلالات والنواقص المسجلة في تجربة تشكل أمة، وبناء دولة حديثة. فلقد ظلت بلاد البدو الرحل و"سيْبتهم" ،رغم تواجدهم وعطاءهم المعرفي، بعيدة عن تنظيم الدولة، ولا تزال.
وأول ما يمكن تسجيله، فيما يخص تشكل "الأمة" علي الأقل، هو أن المجتمع الموريتاني، لا يزال يحتفظ بنفس التركيبة الطبقية والقبلية والعرقية، كما كانت قبل الاستقلال! فلا هذا الأخير، ولا التعليم الحديث، ولا مؤسسات الدولة الحديثة، ولا منظومتها القانونية، ولا الايديولجيات والأحزاب السياسية التي عرفتها البلاد، حركت أو غيرت من هذه الوضعية قيد أنملة. فلا يزال البيظاني العربي، والزاوي، و لمرابط، و لمعلم، وايكيو، والزناكي، ولحراكي، والحرطاني، والكرميتي والعجمي و انمادي، وكذلك لا يزال "الكوْري"، كلّ كما هو، لم يطرأ علي هذه التركيبة من تغيير. مع كل ما تحمله هذه التسميات- الموردة هنا عن قصد -، من دلالات سلبية، للتأكيد علي اجترارها، علي مّر السنين، لشحنتها الآسنة من التصنيف والتقسيم الطبقي والقبلي والعرقي، السلبي إلي أقصي الحدود! هذه بكل تأكيد الملاحظة الجوهرية، مبرزة-بفتح الراء المهملة والمعجمة- دون لف ولا دوران، ولا مقبّلات، ولا مقدمات أكاديمية، معقدة ومملة. وهي لعمري ملاحظة جوهرية تستحق التحليل والدراسة من طرف المختصين في علم الاجتماع و التاريخ السياسي قطعا، لكنها تستحق، وهذا الأهم، المعالجة الجادة والصادقة من طرف جميع الموريتانيين، وبدون استثناء. كما تتطلب الإسراع، والتحرك الفوري، للقضاء نهائيا علي ما تحمله من سلبيات. فلم يعد يتصور عاقل، ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، في زمن الفتوحات العلمية الخارقة، والتقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي المذهل لمجتمعات ظلت في مستوانا إلي عهد قريب، لم يعد عاقل يتصور أن بلادنا يمكنها البقاء متخلفة إلي هذا الحد، باجترارها لهذه التركيبة وما تسببه من تكبيل وإعاقة، تحول دون تحرير الطاقات، وتمنع التلاحم والتضامن بين مختلف مكونات الشعب الواحد، سعيا إلي تكوين أمة "موريتانية" واحدة تتقاسم نفس وشائج الانتماء إلي الوطن، وترتبط به ارتباط مصالح فعلي ومحقق. لكن عدم الاكتراث وعدم الاهتمام تارة، والتمييع والتأجيل أحيانا، والتساهل، والتجاهل والتغاضي أحيانا أخري، بل حتى التمادي علي تأجيجها في كثير من الأحيان، من طرف أنظمة غير مسؤولة، أجرمت في حق هذا البلد المسكين، كلها عوامل ساهمت بشكل مؤكد في تكريس هذه الوضعية، إن لم نقل تعميقها و ترسيخها. هذا من جهة السلطة. أما من جهة الطليعة والنخبة المثقفة، فلقد كان التقاعس والعجز الفعلي عن التغيير أدهي وأمر. فلم تشفع ماركسية الماركسي، ولا الحاد الملحد، ولا قومية القومي العربي أو الزنجي، ولا علمانية العلماني، ولا إسلاموية إسلاميي الفكر والتطلع، أن تغير من وضعية المجتمع الموريتاني، حتى الآن. تتسلح هذه الطليعة والنخبة في الدول الخارجية بأعلى الشهادات، في شتي ميادين العلم والفكر الحديث، حتى إذا رجعت إلي وطنها موريتانيا،"انبطحت" أمام التقسيم القبلي والطبقي والعرقي البغيض! وليست هذه الوضعية سليمة ولا مقبولة، ولم يعد التمادي عليها ممكنا. فعوامل -وهذه مفارقة غريبة- و أدوات القضاء عليها، متوفرة، علي الأقل نظريا. فهذا الدين الإسلامي، بدعوته العالمية و الإنسانية الراقية، يشجع التقارب والتآخي والتلاحم والتآلف بين المسلمين، مهما كانت ألوانهم، وأعراقهم، وقومياتهم، وقبائلهم، وطبقاتهم. فلا اعتبار لكل هذه التصنيفات في المنظور الإسلامي الحقيقي، وإنما الاعتبار لمفهوم راقي، عميق الدلالات والمعاني، هو"التقوى" بمعناها الأعم والأشمل، أي النفع والإصلاح والايجابية، والابتعاد عن السلبية.
فشل العلماء الموريتانيين التقليديين في القراءة الانعتاقية والتحريرية للدين الإسلامي. مما لا جدل فيه ولا مراء أن الدين الإسلامي دين تحرير للبشرية من عبادة البشر للبشر إلي عبادة الواحد الأحد، ومن جور الأديان المحرّفة إلي عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة. وله النصيب الأوفر والشأو الأبعد في تكريم الإنسان والعناية به حيّا وميتا. ويمكن القول باختصار شديد أن القراءة الفقهية البدوية القبلية المتحجرة، المؤْثرة للتقليد الأعمى، النابذة للاجتهاد والتجديد، المتعصبة لنُقُول المذهب الواحد، البعيدة عن تغليب القراءة المقاصدية لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء، في بيئة قبلية استرقاقية متخلفة، كلها عوامل لم تكن لتمنح العالم الموريتاني المقيد والمتقيد بمختصر خليل، فرصة كبيرة للفوز بإعلاء خطاب ديني تحرري، انعتا قي، ناصر للمستضعفين في الأرض، ومنفتح بلا حدود علي الآخر، مهما كان عرقه وقوميته ولونه وطبقته. ولعل هذا الطابع البدوي للفقيه الموريتاني المتحجر الفكر، المحدود الإطلاع، المقيد الاجتهاد، وبالتالي ضيق الأفق، لعله يعيننا علي فهم تجذر القراءة الاسترقاقية -الخليلية إلي حدّ بعيد- ، وهذا يجب الاعتراف به- لديننا الحنيف، مما جعل قطرنا يستأثر بخاصية استشراء وبقاء الممارسات العبودية فيه. حتى أن الكثير من حاملي الزاد الثقافي المحظري التقليدي يعتقد اعتقادا جازما أن العبودية جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي! هذه الوضعية هي التي حدت بمجموعة من العلماء الموريتانيين المتأخرين إلي إصدار الفتوى الشهيرة-إبان حكم ولد هيدالة- ،وهي احدي فترات الأنظمة العسكرية الانقلابية المشؤومة، تمثلت تلك الفتوى في كراس، أو ورقات، توضح الموقف الصحيح للإسلام من العبودية، محاولة توضيح عدم شرعية أصول الاسترقاق في القطر الموريتاني. فما كان للجدل الفقهي حول الموضوع إلا أن يخف وقتها، لكن الممارسات الاسترقاقية المقيتة ظلت متواصلة، وباسم الدين للأسف الشديد، رغم نداءات وكفاح الجيل الأول من حركة "الحر" و"أخوك الحرطاني" المتكررة والدائمة، والتي ظلت في مجملها تبتعد عن الدخول في صراع مفتوح، متجنبة الصدام المباشر مع المؤسسة الدينية التقليدية. ولا يخفي ما كان لهذا الموقف الرزين من طرف مسعود ولد بلخير-بالأخص، مما سهّل ميلاد التحالف بين التيارات القومية –الناصرية والبعثية- معه، فيما بعد، في فترة من أصعب وأحلك حقب الصراع الإيديولوجي والسياسي في موريتانيا.
فشل الخطاب القومي العربي الضيق لم يكن الخطاب الفكري القومي العربي، بشقيه الناصري والبعثي، ليضع التصدي للممارسات الاسترقاقية في صف أولوياته. فقد كانت معركة وهمية أخري تشد كامل انتباهه، وتستأثر بكامل تركيزه، ألا وهي الصراع الأبدي مع المتطرفين من الأفارقة الزنوج، الذين لم يكونوا في الحقيقة إلا الوجه الآخر والنظير، والمقابل الطبيعي لنفس الطرح الفكري القومي الضيق في القطر الواحد! ولم يكن هذا الخطاب القومي الضيق ليسهم في ترسيخ الوحدة الوطنية، وبالتالي لم يكن مؤهلا لأن يشكل عاملا ايجابيا في تشكل الأمة الموريتانية، اللهم ما كان من خطوة- لنقل جبّارة !- اقتضت الحكمة القومية فيها أن يقع ذلك التحالف التاريخي بين التحرريين من فئة الحراطين والقوميين العرب.
فشل الخطاب الانفصالي للزنوج لم يكن الطرح الزنجي الإفريقي الضيق، والذي يجب التذكير هنا أنه لا يمثل جميع هذه المكونة من الشعب الموريتاني، لم يكن في جوهره إلا ردة فعل طبيعية علي الطرح الفكري القومي العربي الضيق. ونظرا لأقلية الحاملين لهذا الفكر، حيث لا يمثلون إلا أقلية من أقلية، فقد ظل بعيدا عن الإسهام في ترسيخ الوحدة الوطنية، ولم يلعب دورا يذكر حتى في تكسير البنية الطبقية المتشددة في الفئات الزنجية الإفريقية . حيث لا تزال التركيبية لهذه الفئات علي حالها : في القمة، عند التكرور مثلا، طبقة"التروبي"، ثم يأتي "السبي" و "الجومبي"، وأخيرا "السبلبي" وهؤلاء كلهم، هم طبقة "الرمبي" أي الأحرار!. وتمارس هذه الطبقات التسلط والتكبر علي فئات أخري هي الطبقات السفلي! : "النينبة" و "المككوبة"! أما عند الوولوف والسونونكي، فحدث كذلك ولا حرج! نفس البدائية والتخلف في التقسيمات الطبقية والفئوية التي نجدها عند مجتمع البيظان، مع تواجد عامل شرخ يزيد في التقسيم الطبقي لدي الأخيرين، ألا وهو اللون! وبالتأكيد، لم تسجل الطبقة السياسية والمثقفة في بلادنا بارتياح، ما ذهبت إليه قيادة "الفلام" أخيرا، بعد رجوع قادتها من فرنسا، من الحديث عن إمكانية انفصال الضفة عن الوطن الأم، وهو طرح أقل ما يقال عنه أنه انهزامي وانتحاري، علي الأقل في الظروف الراهنة!
فشل الانعتاقيين الجدد في تمرير خطاب موحّد –بكسر الحاء المهملة لئن كانت، موريتانيا قد ظلت للأسف الشديد تعاني، قبل الاستقلال وبعده، من تحريف للدين الإسلامي-وهنا أنحاز كليا إلي المناضل برام ولد الداه ولد أعبيد- حيث استُرق الناس باسم الدين، واستُغل مواطنون، وهُمّش وأقصي آخرون، باسمه أيضا، ونسج الذين نصّبوا أنفسهم سدنة للإسلام، في مخيلة الجميع، قراءة محرفة لديننا الحنيف، حين كرسوا تقسيم المجتمع إلي طبقات وطوائف، ما أنزل الله بها من سلطان!... ولئن كانت الأحزاب والتشكيلات السياسية الموريتانية الحديثة، لا تزال تتمادي في ذكر هذا الدين الإسلامي العظيم، كأقوى ضمانة للحمة اجتماعية، لا يرى منها الناظر إلا شعارات جوفاء، وحلما بعيد المنال... ولئن كانت الأنظمة المتعاقبة علي البلد ظلت تفضل عدم الاكتراث وعدم الاهتمام تارة،والتمييع والتأجيل أحيانا، والتساهل، والتجاهل والتغاضي أحيانا أخري، بل حتى التمادي علي تأجيجها في كثير من الأحيان، فتكون بذلك قد أجرمت في حق هذا البلد المسكين، كما أسلفنا... ولئن كانت النخب السياسية والثقافية لم توفق فيما مضي من تاريخ بلادنا للتصدي بشكل فعلي لمظاهر وممارسات وعقليات ومسلكيات الاسترقاقيين العبوديين، من أجل القضاء عليها كليا... ولئن كانت الحركة الانعتاقية وُفّقت، سلبيا أكثر منها ايجابيا، في تحريك المياه الراكدة وامتلكت من الجرأة والشجاعة ما لم يصل إليه غيرها، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها...
إلا أن كل ذلك، لا يمكن أن يبرر خطابا متطرفا آخر، أكثر تطرفا و عنصرية وبغضا وكراهية و تخندقا من أي طرح سابق. وبذلك صار المرتكز الفكري للحركة الانعتاقية في موريتانيا، ممجوجا ومنبوذا، حتى من طرف أصدق الانعتاقيين و التحرريين من الشعب الموريتاني، ومن جميع مكوناته!...
وما كان كل ذلك ليبرر المزايدة علي الإسلام والمسلمين في موضوع حقوق الإنسان. والاستقواء علي بني العقيدة والوطن الواحد بالمنظمات الحقوقية والقوانين الدولية. وهي مصيدة خطيرة، جربها مناضلون قبل برام، فلم يرجعوا منها إلا بخفيْ حنين، حيث لا يفهم الغرب المتصهْين حتى النخاع، والمتغطرس حتى الغباء، لا يفهم ولا يقدر حقوق الإنسان إلا إذا كان ذلك الإنسان غربيا أو تابعا للغرب! وهنا أذكر بما كتبت، اثر مناسبة محرقة الكتب، الغبية كأسلوب، العميقة كمقصد ومطلوب، كان الأجدر البحث عن التعبير عنه بشكل آخر. تحت عنوان: "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" فتأمل المقال وارجع إليه.
الأمل المعقود علي الشباب ذي المرجعية الإسلامية في موريتانيا يبقي الأمل أخيرا، معقودا علي شباب الحركة الإسلامية الحديثة و فكر حركة الإخوان المسلمين علي وجه الخصوص، حيث يرشح هذا التيار،رصيد هائل، من فكر إسلامي أصيل، عالمي في طرحه، أصيل في تأصيله وترسيخه، معتمد علي الهدي الرباني للقائد المؤسس والمجدد الفذ حسن البنا-رحمه الله- و مسترشدا بالعطاء الفكري الغزير والعميق للشهيد، سيد قطب-رحمه الله- ،والكتابات والإسهامات الفكرية والفقهية العميقة، الإسلامية الأصيلة، لأبي الحسن الندوي، سيد سابق، أبو الأعلى المودودي، و الهضيبي، ومحمد علي فرغلي-رحمه الله- ، و سعيد حوي، وفتحي يكن، وحسن الترابي، وراشد الغنوشي ...الخ والقائمة تطول! فهل ينجح الشباب "المتوضأ" ،المجدد لولائه وإيمانه الصادق، بالله وبرسوله، المتحرر من القبلية والطبقية والطائفية والجهوية والعرقية، المثقف ثقافة عصرية، المتجذر الانتماء، العاضّ بالنواجذ علي الثوابت، المنفتح علي العالم الحديث للإفادة والاستفادة، فيُخرجوا بلادنا، بصدق، وفي أسرع وقت، من أوحال جاهلية القراءة "الاسترقاقية-القبلية-الطبقية-العرقية-" للاسلام... هل ينجحون .. في بلد يقع عليه واجب الحفاظ علي السمعة الطيبة والمكانة السامقة للإسهام العلمي الفذ للعلماء الشناقطة الأوائل في العلوم والمعارف العربية والإسلامية؟ هل ينجحون .. في بلد يحمل اسم "الجمهورية الإسلامية الموريتانية"، مما يضع علي عواتقهم عبء النهوض برسالة هذا الدين العظيم، التي هي مساواة وعدل وإنصاف، في جوهرها؟ هل ينجحون .. في بلد يحتاج إلي جهد كل مواطن من ساكنته، في زمن العولمة الجارفة، والبحث العلمي الراقي، والتكتلات الاقتصادية الكبيرة، والمنافسة الشرسة؟ هل ينجحون .. في بلد يعاني بالذات، وبالأخص، من طبقية، وقبلية، وعرقية بغيضة، تحول بينه وبين الرقي إلي مصاف الشعوب و الدول التي تسير علي درب التقدم والرقي والازدهار، بخطي واثقة؟
ألا، ليتهم ينجحون، ألا ليتهم ينجحون...
انواكشوط 23/11/2013