عام المأزق هو العنوان الذي كنت استشرفته لعامنا الموشك على الانصرام، في مقال نشر الأسبوع الأول من شهر يناير، خلص إلى أن القوى السياسية الأساسية في المشهد تواجه مجتمعة ويواجه كل منها لوحده مأزقا سياسيا عميقا؛ فهي لم تستطع أن تنجز ما كانت تريد إنجازه ولم تمتلك شجاعة
الاعتراف بذلك تاركة البلد يتجه بقوة ذاتية لمأزق كانت ملامحه ممكنة الاستشراف بداية العام وهي اليوم شديدة الوضح إلى الحد الذي يتعذر معه التدقيق في تفاصيلها فمن القرب ما يحجب تفاصيل الرؤية.
المأزق قائم والحديث عنه الآن جار على كل لسان لذلك لا داعي لتقديم أدلة على وجوده، إنما المطلوب هو محاولة استبيان تفاصيله وتجلياته لدى كل طرف عسى أن يكون ذلك مقدمة لتلمس مخارج طوارئ قبل أن يثور البركان في وجوه الجميع ليسقط ويحرق كياننا الهش رغم مرور ثلاث وخمسين سنة على تشييده.
- المأزق خانق في صف السلطة التي كانت حتى عشية تنظيم الانتخابات تعتبر أنها خرجت من عنق الزجاجة وأنها تركت وراء ظهرها زمن الأزمة؛ فهاهي اللجنة المشرفة على الانتخابات عاجزة أو معجزة عن إعلان النتائج بعد مرور أسبوع على بداية عملية الاقتراع.
عجز اللجنة الذي جعلها تفقد أكثر من نصف رصيدها الضئيل أصلا - يصفه البعض بأنه رصيد الرياح – ليس سوى الواجهة التي يراد لها أن تظهر من المأزق لكنها ليست الأهم؛ فاللجنة التي تعمل بكامل طاقة وطاقم وزارة الداخلية المتمرس في التزوير وإعادة التزوير كان بإمكانها إعلان النتائج يوم الثلثاء الماضي لكن مؤشرات حملت ما لم تتوقعه تقديرات السلطة جعلت سفن الربان الماهر بدن ولد سيدي تبحر على مهل في انتظار أن يتم تحضير أرضية مناسبة يمكن أن ترسو عليها النتائج دون أن يزعج ذلك حسابات الرئيس الجنرال الداخلية والخارجية.
ولأن عملية الترتيب لم تعد بالسهولة التي كانت عليها أيام كان الإداري المحترف وعديدون من أضرابه يحولون الموجب إلى سالب فإن المأزق هنا يبدو معقدا ويحتاج التغلب عليه وقتا إضافيا، مهما لوح المشاركون بالانسحاب، ومهما تم السحب من الرصيد حتى من" رصيد الرياح"، يمكن الوثوق في أن الربان "بدن" سيظل مبحرا على مهل إلى أن يتلقى إشارة الرسو من البحار الرئيس، وفي كل الظروف سيجد "بدن" طريقة لتنفيذ التعليمات حتى ولو كان البحار الرئيس أكثر خبرة في صناعة وإصلاح السفن منه في قيادتها.
خلاصة المأزق هنا في خندق السلطة أن الانتخابات نظمت دون رقابة دولية أو وطنية ذات مصداقية، وبمقاطعة أطراف رئيسة في المشهد وأنها عرفت خروقات هائلة، كشفت هشاشة القناعة الديمقراطية لدى السلطة، ومع كل ذلك تحمل المؤشرات تقدما مزعجا للحزب الأكثر راديكالية بين المشاركين، الحزب الذي ما يزال لسانه رطبا من دعوات الرحيل، كما هو رطب من التأكيد على مرجعية إسلامية وإنتماء إسلامي كان الرئيس الجنرال بشر أعوانه بنهايته " كونيا" فإذا بالأصوات الداعمة له تتسابق قادمة من باسكنو وكرمسين و من جول وأطار.
- المأزق شديد الوضوح والتجلي أيضا في صفوف المعارضين المشاركين – المحاور منهم وغير المحاور - فرغم أن أيا منهم لم تكن له ثقة كبيرة بضمانات العملية لكن ما حصل من خروقات كان فوق توقعاتهم جميعا، وهو ما عكسته البيانات والمؤتمرات الصحفية لهؤلاء يمكن هنا التذكير أن حزبا التحالف الشعبي والتقدمي وتواصل نظما لوحدهما أكثر من ست مؤتمرات صحفية خلال أربعة أيام، وفي كل مؤتمر كان الحزبان يقدمان حصيلة مخيفة من الخروقات تبدأ بانحياز رؤساء المكاتب، وتنتهي بسحل البرلمانيين في الشوارع، دون أن ننسى أن المعارضين المشاركين لم يتم تمكينهم حتى من الحصول على نسخ من المحاضر يمكنهم على أساسها الطعن وهو ما يجعل أي نتائج يعلنون عنها بناء على ما يتوفر لديهم من معطيات هي نتائج " غير نهائية قطعا" تماما مثل نتائج السيد بدن مسؤول اللوجستيات للانتخابات التي قال إنها ستظل غير نهائية إلى أن يتم تأكيدها من المجلس الدستوري والمحكمة العليا.
لقد ظهرت أحزاب المعارضة المشاركة في صورة لاتحسد عليها أمام الرأي العام الوطني والدولي فهي ورغم أنها قبلت المجازفة بالمشاركة في انتخابات بدون ضمانات، أملا في تعزيز الديمقراطية، وتحقيق التراكم كما تقول، لكنها بدت مغيبة حتى عن الاطلاع على حيثيات يمكنها على أساسها الطعن في الظلم الواقع عليها.
وبدل أن يقدم النظام للمعارضين المشاركين مكافأة معنوية تتمثل في الاحترام الشكلي لحياد الإدارة، انخرط الجنرالات والوزراء والمديرون في حملات مكشوفة لحزب الحاكم، ولم تجد صيحات المعارضين المشاركين؛ بمن فيهم الرئيس مسعود ولد بلخير أي صدى.. نعم لم تجد صيحات مسعود أي صدى رغم أن الرجل وهب صوته قرابة سنتين لتسفيه أحلام المطالبين برحيل النظام، المستلهمين لروح الربيع، والمستنشقين لعبيره، وهاهو السيد مسعود يجد نفسه وحزبه يدحرجان في المناطق التي كان لهم فيها وجود، وينكل بمن يرفع الصوت من أنصاره ضد ذلك.
لابد من إشارة هنا – بغض النظر عن ما ستنتهي إليه النتائج إلى أن السيد مسعود ولد بلخير قد يكون أكبر الخاسرين في العملية الحالية، بل إنه يوشك أن يأخذ جزاء سينمار على كل ما قام به من دفع في اتجاه الحوار، ومعارضة للرحيل ورهان على التغيير المتدرج من خلال التفاهم مع رئيس الفقراء وحامل لواء التغيير البناء.
وبكل تأكيد للتواصليين نصيبهم من المأزق رغم أن نتائجهم الانتخابية لم تكن الاسوأ وان المؤشرات ترجح أن حزب تواصل سيحتل الرتبة الثانية في النتائج الكلية، لكن نتائجهم هذه التي يراهنون من خلالها على تأكيد صوابية خيارهم بالمشاركة منفردين عن المنسقية، ترقد في غرفة العناية المركزة تحت إشراف السيد بدن الذي لن يعاني – مهما تقلص الرصيد - من صعوبات في التواصل والاتصال مع الربان العام المنزعج حد التوتر من انتهاء الانتخابات ببرقية تتداولها وكالات الأنباء عن تصدر الإسلاميين الموريتانيين أحزاب المعارضة المشاركة، وتأهلم لخوض الشوط الثاني في ثلثي بلديات العاصمة، وتحقيقهم نتائج متقاربة مع حزب الحاكم في القوائم الوطنية التي يصوت عليها كل الموريتانيين.... سيكون من غير المضمون أن السيد" بدن " سيترك لهذه البرقية أن تمر، مع كل ما تحمله من إزعاج للرئيس القادم حديثا من السعودية بجر الحقائب.
-لأحزاب المنسقية المقاطعة نصيبها المجزي من المأزق، فبرغم إصرار شبابها على المقاطعة النشطة، وما انتج من زخم إعلامي وتضامن سياسي وحقوقي في وجه القمع الوحشي الذي تعرضوا له، لكن تدافع الناخبين في العاصمة وداخل البلد أمام صناديق الاقتراع أكد أن الرهان على المقاطعة لم يأخذ بالحسبان المعطي المتعلق بقناعة الأغلبية الساحقة من الموريتانيين بالمشاركة في أي انتخابات تتم في أي سياق وبأي ضمانات
كما أن النتائج التي حققتها أحزاب المعارضة المشاركة رغم كل الخروقات لاتقوى من حجة المنسقية القائلة إن أي مشاركة تعطي شرعية للانتخابات دون أن تمكن المعارضين من الحصول على التمثيل المناسب في البرلمان وداخل المجالس البلدية.
إن الحجة التي تقول إن مشاركة المنسقية كانت ستجعل من فرص هزيمة حزب الحاكم في عدد أكبر من الدوائر تبدو اليوم أكثر منطقية من حجج المقاطعة التي ساقتها المنسقية، وهو ما قد يزيد من عزلة النشاط المعارض ليس على مستوى المؤسسات المنتخبة فالراجح أنه سيضمن حضورا معقولا فيها من خلال المعارضين المشاركين لكن أيضا على مستوى الشارع والرأي العام الذي تزيد فيه فرص تسويق فكرة أن من لم يشارك في هذه الانتخابات فقد "فاته القطار " وأصبح " خارج اللعبة ".
أيا تكن النتيجة النهائية للانتخابات، إذا ومهما يكن الوقت الذي يتم فيه الإعلان عن النتائج النهائية بالحساب " البدنوي" يمكن القول جزما إنها لن تحل الأزمة السياسية التي يعيشها البلد منذ أن " ألغى" الجنرال انتخاب أول رئيس مدني منتخب، ووجد في المشهد من يبارك له ذلك ويساوقه فيه، تماما كما وجد في قاعة الاقتراع يوم السبت الماضي من يساعده على التصويت مرة ثانية بعد أن كان صوته في المرة الأولى " لاغ" ربما لأنه لم يستطع التمييز بين الاتحاد والكرامة والحراك... سيكون علينا إذا أن ننتظر ليس شوطا ثانيا بعد أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع – لاقيمة للزمن في عداد الرئيس أحرى في عدد بدن - بل علينا أن ننتظر انتخابا آخر او انقلابا آخر، أو حوارا آخر لنخرج من سيزيفية مشهدنا السياسي.. انقلاب.. وانتخاب.. وحوار وانتخاب وانقلاب، حين أقول انقلابا أتوقع أن بيانه الأول سيقول إن ما سبق "لاغ" .. لايهم إن كان من يقول ذلك مدججا بالسلاح أو بحاسبات تلغي وتثبت حسب رغبة " المنقلب الأكبر"