فلسفتنا مع الإلحاد / المهدي بن أحمد طالب

إنّ الإنسان وهو يمر بمرحلة التطور الجسدي والفكري تمرُّ به خواطر وأفكار تستلزم الجواب المقنع المنطلق من الواقع المحسوس والمعقول، ولغة مُصادرة حقه في التفكير والاستفسار، تصنع أجيالا من الملحدين اللادينيين، وهذه المُصادرة لا تنمُّ عن علم، بقدر ما تفصح عن جهل مُطبق بمدارك العقل ومكامن التنزيل .

ليس عندنا في شرعنا الحنيف ما يستلزم منا التستر عليه أو عدم القدرة في الإفصاح عنه، ليس عندنا ما نخفيه عن العامة أو نمنعهم من الاطلاع عيله، ليس عندنا ما نعجز عن الإجابة عليه لما يثار حوله من أسئلة أو استفسار بالحجج المنطقية والعقلية، ومن لا يمتلك منّا القدرة في الدفاع عنه أو الإجابة عليه، عليه أن يتلاءم مع جهله لا أن يقّدّم نفسه لمحاكمة الآخرين.

إنّ ظاهرة تلف الأفكار ومُحاصرتها بدل التعامل معها بطريقة موضوعية، تجعلنا نتأسف على مادتنا الرمادية العاجزة عن مُقارعة الحجة بالحجة، العاجزة عن الاجابة على الأسئلة الاستفهامية اللامتناهية التي تُراود الباحثين عن الحقيقة أو المكابرين للشرع وآيات الكون.

الإلحاد ظاهرة فلسفية تبدأ من الشك وتنتهي عنده، تبدأ من الظواهر الوجودية وتنتهي عند اللا موجود، وسبب ضياع أصحابها في غياهب صحراء الجهل، هو عدم استنارتهم بشرع أو دين يوصلهم إلى برّ الأمان، حيث الاطمئنان النفسي والسكون الروحي.

لقد كان نبينا إبراهيم عليه الصلاة السلام داعيا إلى البحث عن الحقيقة، واضعا الأسئلة ذات الدلائل الاستفهامية، ذات المنطق المعرفي والعقلي، الباحث عن معرفة الموت وحقيقة سر البعث ولهذا قال ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ؟ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ؟ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

إنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن مقصده المكابرة والتعنت، وإنّما أراد الوقوف على حقيقة البعث، ثم إنّ الله تعالى لم يحاسبه على الاستفسار عن مثل هذه الأسئلة، وإنّما استفسر عن إيمانه – وهو أعلم – فكان جواب إبراهيم عليه الصلاة والسلام شافيا وهو الاطمئنان القلبي، ولهذا قال عطاء بن أبي رباح : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس .

لقد كان نبينا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حكيما في أسلوبه، عليما بحجج خصومه، ولهذا حاور عبّاد الأصنام بمنطقهم وجادلهم بما يؤمنون به ويعتقدونه، لم يصادر آراءهم، لم يتهمهم بالزندقة لمجرد استفسارهم لأنهم لم يؤمنوا أصلا.

لقد قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لأبيه وقومه ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين ) إنّ هذا الأسلوب اللبق، أدعى لهداية الخصم، أمّا أسلوب التكفير والجلد بالسياط فلن يزيد الخصم إلا إصرارا ومكابرة . لقد كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يجيبون على كل الأسئلة المثارة، لم يكن من منهجهم الحكم على الناس قبل المجادلة بالتي هي أحسن والمناظرة بالتي هي أقوم، لم يكن مقصدهم دخول هذا في النار وذاك في السعير، كان مقصدهم هو هداية البشرية وإسعادهم، وعلى هذا يربون أتباعهم.

لقد أجاب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن أسئلة قساوسة النجاشي فيما يعتقده المسلمون في عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان جوابه بأسلوبه اللبق سببا في إسلام النجاشي رضي الله عنه.

إن إقناع الخصم بالحق من أجل دخوله في الجنة خير وأحسن من إقناعه بالباطل من أجل خلوده في النار.

ثم، إنّ بقاء الأسئلة الحائرة والمحيّرة دون جواب، يجعل النشأة يعيشون في أوهام وخيالات قد تُؤدي بهم إلى الانتحار الجسدي وهو الموت، أو الانتحار الفكري بشقيه التكفيري و الإلحادي.

وحين نوغل في تاريخنا الإسلامي نجد أن الانتفاح الفكري في عهد المأمون العباسي كان سببا رئيسيا لكل ما نشهده اليوم ونعيشه، من صراع وتجاذبات، حيث انقسم الناس بين فريق داع إلى تقبُّل كتب الفلسفة وما فيها من خير أو شر، وفريق رافض لها حتى ولو وافقت الصواب، وتزعم الأولى أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، ورائد المدرسة الثانية فيما بعد هو أبو حامد الغزالي، حيث كفّر في كتابه ( المنقذ من الضلال ) القائلين بقدم العالم، كما أنّه ألّف كتابه ( تهافت الفلاسفة) من أجل الغرض نفسه، وبعد هذه الموجة ظهر جيل آخر داع إلى قبول ما في الفلسفة من خير ونبذ ما فيها من شر، ورائد هذه الحركة - المنصفة - هو ابن رشد القرطبي الذي ألّف كتابه ( فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ) كما أنّه ردّ على الغزالي في كتابه ( تهافت التهافت) الذي رأى فيه أنّ الغزالي بالغ في نقده للفلاسفة، وبعد هذا الجيل ظهر أبو العباس ابن تيمية الذي تصدى هو الآخر للجميع، رافعا راية الحق، داعيا إلى أن لا تعارض ألبتة بين النقل الصحيح والعقل السليم في كتابه ( درء تعارض العقل والنقل) وهكذا ظلّ الصراع محتدما في إطار الخلاف المشروع من جهة، واللا مشروع من جهة أخرى، وبعد أن توغل المسلمون في دركات الانحطاط، بسبب ظاهرة الجمود والتعصب والتقليد الأعمى، ظهرت حركات إصلاحية انبعاثية، بدأت مشوارها من الشاطبي الذي دعا في الموافقات إلى الرجوع إلى الإسلام والبحث عن مقاصده وأسراره، ونبذ التعصب وهكذا توالت على مرّ الليالي والأيام دعوات إصلاحية، كان آخرها جيل النهضة الذي حمل على عاتقه لواء الإصلاح، مُعتمدا ومُكملا لمشوار الشاطبي الإصلاحي.

غير أنّ هذا الجيل انقسم على ذاته، حيث وجد نفسه في منعرج خطير الانحدار، وجد نفسه بين جيل داع إلى تقبُّل كل ما عند الغرب من كفر وإلحاد، وجيل داع إلى نبذ كل ما عند الغرب مكفر كلّ متعاط لما عنده، ليرجع الناس من حيث لا يدرون إلى عصر بيت الحكمة من جديد.

وبما أنّ الغرب فرض نفسه على الشرقيين بحجة البحث والاستكشاف، وجد المسلمون أنفسهم بين مطرقة آلة الغرب وما تحمله من معاول هدم، وسندان ضعف المناعة عند شبانهم لمواجهة الأفكار.

وهكذا وجد الإلحاد نفسه في عصرنا الحديث عند كل من، كارل ماركس، وتشارلز داروين، وفريد ريك نيتشه، وسيغم وند فرويد، وقام بترويج تراثهم الفسلفي بيننا دهانقة الاستشراق، القابعون خلف أسوار البعثات الدبلوماسية.

لقد دعا كلٌ منهم إلى نبذ الدين جملة وتفصيلا وإلصاق تأخر المجتمعات به، وجاءوا ببديل يتنافى مع الفطرة البشرية وصنعوا مجتمعا منحلا أخلاقيا وعقليا لا يؤمن بذاته فضلا عن إله أو معبود.

انتشرت أفكار ماركس - بالخصوص - بين الشعوب العربية والمسلمة أيام عظمة روسيا وهيمنتها على الاقتصاد العالمي، وحين انهارت الاشتراكية اقتصاديا وضعفت فكريا، بدأ المفكرون المسلمون يتصدّون لظاهرة الإلحاد التي أنتجها ماركس وأتباعه شرقا وغربا.

ومن بين المتصدّين لهؤلاء الماديين، جمال الدين الأفغاني في كتابه ( الرد على الدهريين ) الذي كشف فيه زيفهم وبين – رحمه الله – مصادمة أفكارهم للسنن الربانية والفطرة البشرية، وهكذا محمد عبده في مصر ومحمد إقبال في شبه القارة الهندية لينطلق أول جيل تخرج على أيديهم، حاملا مشعل الهداية والنور لإسعاد البشرية من جديد.

لكنّ هذه الحركة الفكرية بسبب انشغالها بالمشاكل الخارجية من مقاومة للاستعمار الجاثم على صدور المجتمعات الإسلامية، عجزت عن تحصين المجتمع المسلم من الداخل تحصينا منضبطا بحيث لا يتأثر بالروافد الغربية المخالفة للدين والرواسب التي خلّفها عصر الانحطاط في المجتمع الإسلامي ولهذا السبب ظهر جيل غير مُحصن من الداخل والخارج تحصينا قويا، مما جعل الإلحاد يجد ضالته من جديد.

ومن أشهر الملحدين في عالمنا الإسلامي مصطفى محمود المصري، الذي عاش في أحضان الإلحاد حوالي ثلاثين سنة، والسبب في إلحاده كما يقول عن نفسه، هو ضعف الكادر التعليمي المؤهل للإجابة عن الأسئلة المُحيّرة التي انتابته وهو في المرحلة الابتدائية، كما أنّ الكبت وعدم حرية الرأي كان رافدا قويا جعله يؤسس ناديا أطلق عليه ( نادي الكفار ) كل هذا من أجل مناهضة المجتمع المصري الرافض آنذاك، لكل استفسار أو استشكال حول الربوبية أو الألوهية، وبعد بحث جاد وتوفيق من الله تعالى، رجع إلى الإسلام من جديد بوجه مشرق وألّف كتابه ( رحلتي من الشك إلى الإيمان) الذي بين فيه ما عانى منه طيلة رحلته الإلحادية، كما أنّه ألّف كتابه ( أنا وصديقي الملحد ) من أجل الإجابة على التساؤلات التي عجز أبناء بلده عن الإجابة عليها بصورة شافية.

إنّ مشكلة مصطفى محمود ليست حالة شاذة عرفها المجتمع المصري وحسب، بل هي ظاهرة تنتشر في مختلف البلدان الإسلامية، منع من ظهورها إلى السطح الحالة الاجتماعية التي تمنع ظهور مثل هذا بحرية.

إنّ ظاهرة الإلحاد غالبا ما يكون سببها هو البحث عن الحقيقة، كما أنّ من دوافعها أحيانا الاضطرابات النفسية أو المواقف والتصرفات الخاطئة مع النشأة من قبل المربين، ولهذا علاج هذه ظاهرة لابدّ وأن يكون مُشخصا تشخيصا دقيقا، من الناحية النفسية أولا، ذلك أنّ من لا يؤمن بشيء لا يؤمن من حيث لا يدري بذاته وهذا خلل نفسي، كما أنّ الجانب الاجتماعي فيما يتعلق بمراحل النمو النفسي يجب على المربين أن يتعاملوا مع أبنائهم بصورة ذكية، وخاصة مرحلة الانتقال من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، ومن المراهقة إلى ما بعدها لأنّ هذه المراحل بالنسبة للإنسان هي أصعب مرحلة لما يتوارد على ذهنه من أفكار وخواطر، أمّا الجانب الفكري فيما يتعلق بالملحد فيجب أن يكون المتعامل معه حكيما في عرض الأفكار، غير متسرع في الإجابة، حتى يستخرج مكمن الخلل الفكري، ويعالجه وفق منطلقات شرعية وعقلية ومنطقية ثابتة، تتناسب مع مستواه الفكري والمعرفي.

ثمّ، إنّ مُصادرة رأي الملحد والحكم عليه بجنة أو نار ورميه بالزندقة والكفر قبل مُحاورته بالتي هي أحسن ومحاجته بالتي هي أقوم، سبيل إلى تكاثر الفطريات الإلحادية في المجتمعات، لأنّ الملحد كما أسلفت يعاني من مشاكل عدّة تغلي داخل ذهنه، لم يجد لها جوابا شافيا أو علاجا يمس مكمن الألم بعد.

إنّ من دوافع الإلحاد ضعف البنية العقدية والفكرية الغير قادرة على مُواجهة أي تيار فكري، ولهذا يستوجب علينا إنشاء مركزي تخصصي يهتم بدراسة العقائد والأديان والمذاهب الفكرية بطريقة مُؤصلة من الناحية الشرعية ومُوثقة من حيث المعلومات، وإلا فإنّنا سنبقى في مجتمع عائم يدور فوق بحر من الأفكار، غير قادر على إنقاذ نفسه فضلا عن غيره.

كما أنّ من دوافع الإلحاد وأسبابه، الروافد الثقافية ذات المنحى القصصي والأدبي التي كتبها روائيون ملحدون لا دينيون، من خلالها أصبح جيل الشباب - الغير محصن - يستخدم رموزا وشخوصا مثل: الرب، الإله، النبي، إيحاءا إلى الحاكم أو الزعيم، وبهذا ضعفت القدسية في النفوس، حيث أصبح الأمر متاحا لكل من هبّ دبّ.

الإلحاد ظاهرة من الظواهر الفلسفية، يجب علينا أن نعامل من وقع في شركها من أبنائنا بحكمة لا بتعجرف، بعلم لا بجهل، بعقل لا بهوى، بحلم لا بسخط، كما علينا أن نتعامل مع الواقع وأن نعلم بأنّ زمن الكبت ومُصادرة آراء الآخرين تحت أي ضغط أو تهديد قد ولى زمانه، بحكم أمر الواقع، فعلينا أن نُقدّم الحلول لأي استشكال قد يطرح في المستقبل، وأن نعلم بأنّ الصهيونية العالمية تستغل الأحداث وتركب مُوجتها من أجل أغراضها ومصالحها، فلا مجال في هذا العصر لمن لا يفهمون الواقع ويستعدون لتحدّياته الفكرية والسياسية والاجتماعية والنفسية.

المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

30. نوفمبر 2013 - 11:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا